مسار الجلسة التحضيرية لمحاكمة حسني مبارك وولديه ومسؤولين سابقين، وتغطية الصحافة، تركت في حلقي غصة وخفضت بضعة «واطات» من ضوء ما كان أملا في إعادة الروح لديمقراطية برلمانية دخلت جثتها ثلاجة المشرحة عام 1954. بدا من تعليقات المصريين، شباب الميدان، أو من أحزاب سياسية (وبينهم محامون)، خلط مفزع في ضمير الأمة بين العدالة والانتقام الغوغائي. الاستثناء كانت المصرية هبة مرايف من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، معلنة قلقها من استحالة أن يلقى المباركيون محاكمة عادلة في الظروف الحالية، والتقدير قانوني لا سياسي. فالمحكمة تبدو استعراضا سياسيا وليس مسارا للعدالة القضائية. ولو سيق المتهمون إلى مقصلة في الميدان يشغلها أشباح جلادي الثورة الفرنسية، لكانت المهزلة أقل أضرارا بمستقبل الديمقراطية في أقدم حضارة إنسانية؛ ناهيك عن سمعتها عالميا. ورغم أنني من أوائل صحافيي بريطانيا في كشف دموية صدام حسين، منذ السبعينات، فقد كنت أول المنتقدين لسرعة محاكمته وإعدامه بطريقة حرمت جروح ضحاياه تضميد يد العدالة. في المحاكمات الجنائية، يقاضي المتضرر «كفرد» كل «فرد» تسبب في الضرر؛ بينما المحاكمة الجماعية سياسية الجوهر مكانها المحكمة الدستورية أو الإدارية لا الجنائية. فليس من الحضارة استبدال بالعدالة انتقام الغوغاء (كالجماعة الغاضبة في أفلام رعاة البقر تجر المشكوك في أمره لتشنقه في ساحة القرية). تحقيق لجنة تشيلكوت (رابع تحقيق في خوض حكومة بلير لحرب العراق) مستمر منذ 2009 واستجوب 800 شاهد وفحص ملايين المستندات لإلقاء الضوء على 10 أشهر فقط؛ فما بالك بمحاكمة رأس ديكتاتوري استمر 30 عاما؟! كم يستغرق البحث عن الأدلة وتحضير المستندات والتحقق من مصداقية آلاف الشهود، لم يتم حصرهم بعد، في قضاء يعتمد سير جلساته الوثائق أكثر منها المرافعات (لغياب المحلفين)؟ وما هو ضمان عزل تفكير القضاة في دائرة الأدلة المعروضة، عما يدور خارجها من أحداث سياسية مرتبطة؟ نقاش الادعاء والدفاع، تداخل في أسماع القضاة مع هتاف الفرقاء المتقاتلين خارج قاعة المحكمة. فهل النظام القضائي المصري حاليا أكثر «فهلوة» من قضاء الديمقراطيات العريقة الذي ينتظر سنوات قبل بدء النظر في جناية كبرى؟ الانتظار حتى تهدأ العواطف يضمن العدالة، والبحث عن قضاة ومحلفين محايدين معزولين عن ضغوط الرأي العام، قد يستغرق سنوات. العدالة لشهداء سقطوا برصاص البوليس والعسكر في محاكمة جنائية تعني ادعاء كل ضحية (أو ورثته) كفرد ضد متهم أو أكثر كأفراد منفصلين في القضية. محامو مبارك طلبوا استدعاء أدراج 1761 شاهدا ولا تكتمل عدالة المحاكمة إلا بالاستجابة لطلبهم. ويشترط على الاتهام تزويد الدفاع بنسخة من كل مستند وخلفية كل شاهد وما يمكن أن يجرح شهادته، والعكس بالنسبة للدفاع. تبادل الملفات وحده يستغرق عشرات الأشهر وقد يمر عامان قبل أول جلسة استجواب ذات معنى قانوني. الادعاء أحد مفصليات جهاز قضائي (لا نشكك في نزاهة قضاته كأفراد) بدوره جزء من نظام يقف ممثلوه (ومنهم من نصب قضاة الجهاز) في قفص الاتهام. ومنذ إعلان الجمهورية عام 1953 (بفرمان غير دستوري أصدره قادة انقلاب 52) لا توجد جهة منتخبة ديمقراطيا من الأمة المصرية تخضع الجهاز القضائي، بفروعه ومفصلياته، للمحاسبة في غياب آليات تضمن عدم تسييس الجهاز. فمنذ صهرت ديكتاتورية 52 الدولة في الحكومة وخلطت السلطات التي فصلها دستور 1923، بدأ تسييس النظام القضائي تدريجيا ليصل إلى أوجه بعد مذبحة القضاء على يد الكولونيل عبد الناصر عام 1969 بفصل 200 قاض وتحويل الجهاز إلى أداة سياسية تدعم نظاما غير دستوري (لم ينتخب أحد عبد الناصر أو السادات أو مبارك، بل نقلت الاستفتاءات المزورة الكرباج من يد الديكتاتور المتوفى إلى يد وريثه). مجلس الوزراء، أو المجلس العسكري الحاكم، ألحق باسمهما صفة «المؤقت»، فليس بينهم من انتخبه المصريون ممثلا للأمة، ولذا فلا توجد جهة لديها الصلاحيات الدستورية لإحالة المباركيين إلى القضاء. ويثار السؤال حول التوقيت. تعليقات مصريين ومصريات للشبكات العالمية أو للمراسلين (بروح الانتقام لا العدالة) تعكس رضا وهميا بالتشفي، حيث اعتبر متحدث حزب الغد (لل«بي بي سي 24») المحاكمة «أول أيام الثورة المصرية». فهل تضحيات الأمة 25 يناير - 11 فبراير (شباط)، ودماء الشهداء ثمنها مشهد «شرير»؟ الحلقة الثالثة من المسلسل التراجيهزلي «23 يوليو 1952»، يرقد بثقل 83 خريفا فوق نقالة الإسعاف في قفص الاتهام! مهرجو صحافة اليسار والناصريين، في شراكة منفعة مع إخوان ظلام القرون الوسطى، يصفقون بحرارة للعسكر دعامة نظام 23 يوليو (ولذا طلب الدفاع شهادة الجنرالات لمعرفة تفاصيل تسلسل الأوامر). فالديكتاتورية لم يخترعها مبارك، بل ورثها ابنة ال29 عاما، لتصل منتصف العمر بعد 30 عاما على يديه. الديكتاتورية في مصر بدأت بانقلاب 1952، والخطة كما يبدو حذف ديكتاتورية 1952 - 1981 من الوعي الجماعي للمصريين. فنادرا ما إن تجد في ذاكرة ميدان التحرير 2011 معالم الديكتاتورية الناصرية: زوار الفجر، استعادة المعارضين السياسيين من أوروبا مخدرين في صناديق شحن البضائع، حفلات استقبال المعتقلين السياسيين في ليمان طرة بالعدو عراة بين ضربات عصي صفين من الحراس، ونفخ أجسامهم بخراطيم المياه، ناهيك عن حروب الكولونيل الثوري بطموحاتها الإقليمية. الخطة هي الإبقاء على النظام بإعادة «هيكلة» الوعي المصري - لينسى أن الديكتاتورية ولدت 1952 وليس 1981 - عبر «تكية» صحافة الدولة الناصرية، كرواية أورويل «1984»، بتزييف التاريخ بتسمية انقلاب 23 يوليو «ثورة»، ووصله بثورة 25 يناير بكوبري يشاهد المارة فوقه جسم «ديكتاتورية» مبارك مخدرا في الهوة. إمعية المستفيدين من الخطة! نظام الحزب الوطني (وبيزنس شراكة علاء وجمال)، والناصريون، والعسكر، والإخوان المسلمون؛ فقد اتفقوا مع الكولونيل ناصر قبل انقلابه، ودعموا تدميره للدستورية البرلمانية، حتى اقتتلوا معه بعد ارتفاع سقف الطمع في تقسيم الكعكة. ولذا يطمعون أن يعوض انقلاب 11 فبراير (بكنز القناعة) ما خسروه في انقلاب 23 يوليو. وإذا لم يفق شباب الميدان من كرنفال الانتقام ويعودوا ثوارا لا ثأريين، بإنقاذ ذاكرتهم الجماعية من مثقفي وصحافيي التزييف ويطالبون الحكام المؤقتين باعتراف رسمي موثق بأن الديكتاتورية سبقت مبارك ب29 عاما، فستتحول ثورة 25 يناير انقلابا (ويحتفل بعيد 11 فبراير)، ويرسخ المزيفون تسمية انقلاب 23 يوليو ثورة. نقلا عن الشرق الاونسط السعودية