ثمة اليوم مخاوف وقلق لهما ما يبررهما بعد تصاعد أحداثٍ وتطورات في مجتمعات عربية خرجت للتو من عهد الى عهد، ومن نظام الى آخر مازال في طور التشكل. مراقبة التطورات تثير اسئلة كبرى تتجاوز مرحلة تغيير النظام إلى مرحلة القدرة على بناء نظام أفضل. إلا ان هذا الأفضل مرتبط بالقدرة على صياغة مشروع يؤخذ في الاعتبار بجانب السياسي الثقافي والاجتماعي. المشروع السياسي الذي يقفز على مقومات الاجتماعي والثقافي سيجد نفسه في حالة غربة عن واقع ثقافي واجتماعي ربما يعيد عقارب الساعة للوراء. لايمكن الاستهانة بنتائج عقود تراكمت فيها عوامل التعطيل، وانحسرت فيها قيم ومفاهيم التنوير، وانتشرت فيها أحزمة الفقر والبؤس، وتريفت فيها ملامح المدينة، وأنتجت كتلا بشرية معطلة تعيش على هامش الحياة. التغييرات الكبرى، تواجه مصاعب جمة ومشكلات متعددة، وتعقيدات واقع اجتماعي يجب قراءته كما هو. الماضي بكل مخلفاته وتركته الثقيلة يلقي بظلاله على مشروع تحول. ما افسدته عقود طويلة لا يمكن إصلاحه والتأثير في مساراته خلال اشهر قليلة. في مرحلة مبكرة كتبتُ هنا، أن ثمة مخاطر تطاول الادوار اللاحقة في مشروع تغيير اعتمد على جسد شعبي ضخم تحالف في حالة انسجام فريدة حول التغيير في لحظة تاريخية غير مسبوقة.. إلا ان المراحل اللاحقة لما بعد تغيير رأس النظام تحمل مخاطر كبرى على مستقبل مشروع التغيير اذا لم يكن هناك انسجام حول ماهية مشروع التغيير وادواته وبرامجه ومفاهيمه وعلاقاته بالنسيج الاجتماعي والثقافي. الجسد الضخم الذي صنع التغيير الكبير كان بلا رأس. كان ثمة ضغط كبير على جسد اجتماعي يعاني ويتوق للانعتاق ويريد التغيير بأي ثمن. تعددت اطراف هذا الجسد وأخفت تناقضاتها حالة من الانسجام التاريخي بين مكوناتها تجاه مطالب محددة. إلا ان النقطة الفاصلة بين مرحلة واخرى، بين رحيل نظام والبحث عن ملامح نظام جديد تحتمل الكثير من التعقيدات التي قد تختفي فيها أذرع وأطراف وتمتد اخرى، وتظهر في المشهد أطراف اخرى لم تكن بالحسبان. ثمة فارق كبير بين لحظة تاريخية خاصة تبدو فيها نواة الضغط من اجل تغيير رأس النظام حاسمة في صناعة المشهد.. وبين إنجاز تلك المرحلة، لتعود تلك الجموع تفكر بالمهمة الصعبة القادمة التي لا يمكن حسمها من خلال حشد، ولكن من خلال تفاعل كبير في سلم قيم هي القاسم المشترك الاكبر التي تحمل كتلة التغيير لواجهة المشروع الذي عليه ان يشكل ملامح الدولة الجديدة. أخطر ما تواجهه مرحلة التغيير الانحياز لفكرة العصبية سواء أكانت دينية أم قومية أم مذهبية والتي يمكن ان تفجر توترات طائفية تضع الدولة الديمقراطية الوليدة امام مأزق صعب ومدمر. المجتمعات التي تتوق لبناء نظم تستجيب لمفاهيم تؤمن بالتعددية والحرية ستصطدم في لحظة تحول بنزعات طائفية ذات نفس إقصائي متوجس يعتمد على حالة فرز، ويجد في النسيج الثقافي العام استعدادا للانهماك في مشروع يستمد قدرته على البقاء والانتشار من خلال خريطة ذهنية تم تكييفها خلال عقود تهاوت فيها مفاهيم التنوير والتسامح وحلت محلها مفاهيم الفرز والريبة والتوجس الدائم. هناك اليوم محاولة لإطلاق تلك الانبعاثات المدمرة عبر استغلال مساحة الحرية، سواء من خلال صندوق اقتراع يهزم فكرة الدولة المدنية الجامعة والمستوعبة لمواطنيها او عن طريق إثارة الشعور العام بخطر الآخر او مشروعه المريب!!. التوتر الطائفي، أحد التعبيرات عن ذلك الافتراق الحاد في قضايا يمكن معالجتها قانونيا وليس عبر استدعاء حالة احتراب وقتل وحرائق وتدمير معنويات، وتحطيم الثقة بين ابناء الشعب الواحد.. ومن اخطر الاستدعاءات في تلك التوترات مطالب استعادة ملامح الدولة الامنية من جديد لقمع تلك التناقضات. وإذا كانت تلك التوترات الطائفية التي تصل الى حالة القتل والتدمير والترويع هي نتيجة لبروز جماعات متطرفة في فهمها ووعيها تجاه مسألة المواطنة وحقوق الاخر واهمية الاحتكام للقضاء والقانون في حسم الخلافات والقضايا العالقة في عهد جديد... إلا أن الحقيقة التي يجب الا تخفى ان هناك فئات اجتماعية واسعة وجاهزة لهذا الحشد والاصطفاف، ومستعدة للتورط فيه وليس بالضرورة ان تكون جزءا من تشكيل وتكوين جماعات ذات سمات وأهداف محددة. ثمة عقل اجتماعي يعبر عنه مكنون ثقافي ترسخ عبر عقود نتيجة تعميم ثقافة هشة، وفرز خطير، وتجهيل متواصل، ونسق ذهني مستحكم غابت عنه فضائل التنوير ومساحة التسامح، وشجع عليه اليوم انكسار بنية الدولة الامنية. ضمانة المضي في مشروع التغيير الايجابي نحو دولة مدنية تعددية ديمقراطية لا يمكن ان تتم فقط بإسقاط النظام.. ولكن باستيعاب مسارات التحول الذي سيكون محفوفا بالمخاطر امام تكوينات اجتماعية وثقافية وسياسية حضرت لديها فكرة التغيير، وغابت عنها أو افترقت حول ادوات وخيارات التغيير... وقد دخلت كلها في حيز الحراك، وكلها اصبحت تعمل في ساحة التغيير. إن عقودا طويلة من إلغاء الحياة السياسية، وتهميش القوى الاجتماعية، وإعاقة نموها، والتدهور الكبير الذي اصاب العقل العربي خلال تلك العقود، كافية لوضع مشروع الحرية وديمقراطية الدولة على محك الاختبار في مرحلة حساسة وحرجة من عمر التحول. ولذا لا يجب ان ننظر بعين القلق إلى أبعد من فهم وقراءة واقع تكوّن وتراكم عبر عقود ..حتى اصبح تغييره يتطلب جهدا ووقتا ومشروعا لا يقل اهمية عن مشروع التعددية السياسية. إنه مشروع استنقاذ العقل الاجتماعي، ولن يكون هذا الا من خلال مشروع تعليمي وثقافي واجتماعي واقتصادي هدفه استعادة قيم التنوير ومفاهيم مشروع النهضة بعد ان عطلته لعقودٍ سلطةُ الزعامات التي حملتها قوة الامر الواقع لا شرعية القبول والاختيار. ليس بالضرورة ان تكون القوى المضادة هي العامل الوحيد لإثارة العقبات والقلاقل والاحداث الدامية في طريق التغيير، ولو لم تجد تلك القوى استعدادا كامنا وسريع الاشتعال والاشتغال بمسائل او قضايا تعيق الوصول الى الاهداف الكبرى في مشروع التغيير لدرجة تدمير الذات والاخر، لم يكن لها ان تحقق أيا من اهدافها. الثورة المضادة هي أيضا في عقل مجتمع مازال يحمل من التوجس والقلق تجاه الاخر أكبر بكثير من شعوره بالمصير المشترك او معنى التغيير او ترحيل تلك الخلافات لحسمها عبر ادوات حضارية ذات سمات قانونية، لا بقبضة الفتوات وصيحات النفير واستدعاء هذا الهياج الاعمى المدمر، الذي هو ابن شرعي للجهل وسيادة الدروشة وسيطرة الفتوات.. قدر الحكومات التي تظهر مباشرة بعد التغيير الكبير في بنية رأس النظام وهرمية السلطة القديمة أنها تستيقظ على واقع صعب ومعقد، لتتفجر في وجهها ووجه المجتمع تعقيدات خطيرة تعبر عن واقع ثقافي واقتصادي واجتماعي مأزوم تراكم عبر عقود.. وربما تقوده جماعات متطرفة اصبح لها حضور شعبي واسع نتيجة لانحسار المد التنويري وشيوع الفقر والجهل منذ استحكام انظمة الاستبداد، وانتشار التغذية الثقافية الضارة. وهنا لا مجال لاستعادة الهدوء والنظام بوعد جنة الديمقراطية والدولة المدنية.. إذ سنرى من يدعو لاستعادة دولة القبضة الامنية حتى لو على حساب الحرية. تحتاج المجتمعات العربية لاستعادة مشروع تنويري يصنع عقول اجيال جديدة بعد ان عبثت بها عقود من التجهيل والافقار المعنوي والمادي لتفزر هذه الدمامل التي تتفجر اليوم بتلقائية، وتعبيرا عن مكنونات واحتباسات داخلية. ومالم تبدأ الحكومات الجديدة بمشروع يحاول ان يستعيد الانسان العربي لمفاهيم إنسانية واخلاقية وديمقراطية لتشكل جزءا من تكوينه الذهني وهي تحمل عناوين مشروع النهضة الجديد، فسيكون مسار التحول أكثر صعوبة. ومن المؤكد ان الطريق طويل وشاق وثمرات التغيير لن تجنى دون غرس جديد. نقلا عن الرياض