في كتابه الصادر حديثا " أصول النظام السياسي" ولكنه كتب قبل الثورات العربية الأخيرة، يستثني فوكوياما الدول العربية من موجة الديموقراطية الثالثة التي مرّ بها العالم منذ تسعينات القرن الماضي. يحيل فوكوياما هنا إلى المفهوم الذي صاغة هنتغتون لوصف الحركات الشعبية في أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية لإسقاط الديكتاتوريات واستبدالها بأنظمة ديموقراطية. علامة الديموقراطية تكمن لدى هنتغتون في تغيّر الرئيس كحد أقصى كل ثمان سنوات. أغلب دول العالم ترفع شعار الديموقراطية ولكن الواقع يخالف أغلب تلك الشعارات. معيار هنتغتون شديد الأهمية باعتبار أن تغيّر الحكومة والرئيس يدل على حراك اجتماعي ومجال مفتوح للعمل السياسي وحرية التعبير والاختلاف. من جهته يعمّق فوكوياما تعريفه للديموقراطية الليبرالية باعتبارها مجموعة من المؤسسات التي تكبح وتقنن استخدام القوّة من خلال نظام من المتابعة والموازنة. الآن المنطقة العربية دخلت على خط التغيرات العالمية الكبرى. فعلى غرار الموجة الثالثة تجتاح المنطقة العربية حركات شعبية كبرى تطالب بأنظمة سياسية ديموقراطية حقيقية. إلا أن المهمة ليست سهلة وليست كل الحركات الشعبية تؤدي إلى المأمول منها. الناس خرجوا للشوارع طلبا للحرية والحياة الكريمة فهل ستتمكن الأنظمة الجديدة من تحقيق هذه الطموحات. يبقى هذا السؤال مفتوحا لكل الاحتمالات. الموجة الثالثة حسب هنتنغتون تعطينا تصورا أوضح. بعض الدول حققت نجاحات باهرة لتدخل في رفاه اقتصادي واجتماعي متصاعد. البرازيل مثال مناسب هنا. آخرون وقعوا في ما يسميه Thomas Carothers المنطقة الرمادية. وهي منزلة بين المنزلتين فلا الدولة الجديدة أصبحت ديموقراطية حقيقية ولا هي بقيت ديكتاتورية كما كانت. جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق أمثلة على هذه الحالة. على كل حال كل الخيارات السابقة تمثل حالة متقدمة على الحالة العربية الحالية. كثير من الدول العربية الحالية سارت بمجتمعاتها إلى حالة من الاستبداد غير مسبوقة. المستبد العربي الحديث أمسك في يده أداة لم يمتلكها أسلافه في الاستبداد. أمسك يبده " آلة الدولة الحديثة" التي مكنته من إحكام القبضة على كل شبر من أرض الوطن. في السابق كان المستبد الحاكم يمارس استبداده على ساحة الصراع السياسية المحيطة به أما بقية الناس فكانوا يستطيعون الابتعاد عنه نسبيا وتنظيم حياتهم خارج سلطانه المباشر. خَلَفه الحديث أصبح يطارد الناس في تعليمهم وصحتهم ووظائفهم وتجارتهم وفكرهم وساحاتهم العامة. المستبد العربي تمكّن منذ خمسينات القرن الماضي من خنق الحياة والإمساك بتلابيب الناس والفتك بحياتهم إلى مستويات نفسية وذهنية خاصة وعامة شديدة العمق والأذى. الدولة الحديثة في بعض الأقطار العربية كانت لعنة يحاول العرب اليوم تحويلها إلى رحمة. بحسب فوكوياما فإن النظام السياسي ينهار حين يعجز عن التكيّف. العالم يشهد تحولات وتغيرات على مستويات متنوعة وكل المجتمعات متصلة بشكل أو بآخر بحركة العالم. حين يعجز النظام السياسي عن التكيّف والتحول واستيعاب التغييرات فإنه يبدأ في الاغتراب وحين يغترب فإنه يلجأ للعنف للسيطرة. اغتراب النظام السياسي ولجوؤه للقوة لإدارة المجتمع هي علامات انهيار لا محالة. يضرب فوكوياما المثال بمماليك مصر الذين انهار نظامهم السياسي بسبب غيابهم عن الواقع وجمودهم لدرجة أنهم لم يسلحوا جيشهم بالأسلحة النارية مما جعلهم لقمة سهلة في يد الجيش العثماني. نظام مبارك في مصر ذاتها عجز عن التكيف مع العالم واستيعاب التغيرات الكبيرة في الوعي العالمي وثورات التقنية ليغترب عن مجتمعه ويسقط هذه المرة بيد شعبه. التحدي الآن يكمن في دولة قادرة على استيعاب الواقع. السؤال يكمن هنا في هل لدى الدول العربية الحالية قدرة على المرونة والتحول السريع. أغلب الدول العربية دول مركزية وثقيلة ومعاقة بتكنوقراطيتها. هناك شكوك حول قدرة هذا الجسد على العمل حتى بعد تحريره من الحكومات المستبدة. ربما فكرة الدولة المركزية ذاتها تحتاج إلى مراجعة وتغيير. مؤسسات المجتمع المدني يفترض أن تتحرك في مساحات هائلة لا تزال الدولة تحتكرها. التعليم على سبيل المثال يدار بشكل مركزي من الدولة والمشاركة الشعبية في صياغته وإدارته محدودة إذا لم تكن معدومة بالكامل. الدولة المركزية تسيطر على الجامعات وتتحكم في الحركة العلمية والثقافية والفكرية في البلد. تدخلها في الجامعات وتفاصيل العمل الأكاديمي جعل من الجامعات أقرب لثكنات الاستخبارات منها لساحات البحث والمعرفة. ذات الوصف ينساق على المجال الاقتصادي الذي لا تزال المجموعات الفاسدة المسيطرة في بعض الدول العربية تتحكم بالحركة الاقتصادية من خلال استخدام صلاحيات الدولة الواسعة لتسخير ثروات البلد لصالحها والحد من أجواء المنافسة المفتوحة التي هي سر أي نظام اقتصادي متعاف. الدولة المركزية الحالية قد تسير بالشعوب العربية الثائرة إلى المساحات الرمادية التي لن تلبي طموحات الشباب العربي الطامح للحرية والعمل. تعديل طبيعة الدولة الحالية مهمة عميقة تحتاج إلى حراك كثيف من كل الفعاليات الاجتماعية. الأنظمة السياسية بطيئة الحركة بطبيعتها والتغيير السريع في طبيعة الدولة عملية محفوفة بالمخاطر. التوكنقراط، وهم في الغالب وطنيون محترمون، الممسكون بزمام الدولة الحالية قد يكونون عائقا في وجه تغييرها وحركتها لا بسبب فساد في نواياهم ولكن بسبب كونهم ممثلين لاغتراب الدولة السابقة عن الواقع وتوقفها عن الحياة. التوكنقراط قوّة هائلة في صلب أي دولة مركزية كالدول العربية واتجاه هذه القوة قد يكون مضادا للتغييرات الأخيرة. السؤال هنا ماذا عن النخب الممسكة بزمام المؤسسات الاقتصادية والتربوية والقضائية في الدول العربية؟ هل هي قادرة على مواكبة التغييرات الحديثة وإحداث تحولات موازية في تلافيف الدولة الحالية؟ أسئلة سيتوقف عليها كثير من مستقبل التحولات الاستثنائية الحالية. نقلا عن الوطن السعودية