يحكى أن رجلا اشترى عشرة من الحمير، ثم ركب حمارا منها وعدّ الباقي فوجدها تسعة، نزل من حماره وعدها جميعا فوجدها عشرة، كرر تلك العملية بغباء وقرر أخيرا - حلا للمشكلة الكبيرة عنده - أن يمشي بدلا من أن يركب؛ حتى يضمن بقاء حميره العشرة. لم يسرق الرجل حماره ولم يسرقه أحد، لكن ما قام به هو الفساد! ويحكى أن رجلين اختصما في ''حلم'' فتمنى أحدهما ألفا من الغنم وتمنى الآخر ألفا من الذئاب تأكلها، ولحل الخلاف ''الوهمي'' احتكما لرجل يحمل جرة من العسل فكسر جرته وسال عسله ليقسم أنهما أحمقان، لم يسرق الرجل عسله ولم يسرقه أحد، لكن ما قام به هو الفساد! من يعتقد أن الفساد هو سرقة المال العام والغش والتدليس واستغلال السلطة للتكسب غير المشروع ''فقط'' فقد أخطأ، الفساد قضية أكبر وهمها أشمل وأعم. في اعتقادي أن مشكلة الفساد تشبه مشكلة النسبية عند آينشتاين، الفساد يكون فسادا ''فقط'' بالنسبة لنظرة الراصد له والمقياس المستقل للفساد (والاستقلال مستحيل فلسفيا). سأضرب لهذا مثلا، عندما أمر خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - بإعانة للبطالة، كانت تبدو المسائل بسيطة، فهناك تعداد، وهناك صندوق الموارد البشرية وفوق كل هذا وزارتان للعمل (هما وزارة العمل ووزارة الخدمة المدنية). قبل الأمر السامي كانت مشكلة البطالة مفهومة، لكن بعد الأمر أصبحت غامضة. فقد كان من المتوقع كرد فعل طبيعي أن يندفع العاطلون لطلب الإعانة، لكن بينما تلوذ وزارة الخدمة المدنية بالصمت تفاجئ وزارة العمل الجميع وتعلن أنها لن تستقبل طلبات! هل لأن لديها معلومات كافية ولا تحتاج إلى مثل هذا الإجراء؟ لا طبعا، بل لأنها تعد موقعا إلكترونيا لهذا الغرض، ما هي فائدة الموقع؟ استقبال طلبات، لماذا لم يكن موجودا من قبل؟ هل كانت الوزارة أو غيرها من الوزارات صاحبة الشأن تنتظر قرارا من خادم الحرمين الشريفين كي يكون لديها موقع بطلبات التوظيف ومعلومات البطالة؟ لماذا لم يكن لدينا - في أي وزارة - مرصد لهذا النوع من المعلومات؟ ومع غياب المرصد كيف حددنا حجم البطالة؟ موضوع البطالة ليس موضوع اليوم، بل هو موضوع كل الأيام، كان وسيظل. من يستطيع القول إن مشكلة البطالة - حتى هذه النقطة من النقاش - قضية فساد بمعنى الاختلاس والغش واستغلال السلطة، ومن يستطيع القول بعدم وجود الفساد طالما أن لدينا مئات، بل آلافا من الموظفين الذين يعملون في قطاعات واسعة من الوزارات والهيئات والصناديق التي أقرتها حكومة خادم الحرمين الشريفين لرصد وحل مشكلة البطالة ويتقاضون من أجلها الملايين كرواتب ومكافآت، مع ذلك لا نعرف العاطل من غيره حتى الآن، ولا حتى عددهم. لم يسرق أحد منا معلومات البطالة ولم نسرقها نحن، فما هذا الفساد وكيف سنقبض عليه؟ أقول ليت الفساد رجلا لهان الأمر. نسبية الفساد عندي تتضمن أنه من المستحيل استقلال مقياس الفساد (فلسفيا)، ذلك أن الفساد قضية اجتماعية ثقافية، فعندما تفسد الثقافة والقيم فإن المقاييس تفسد أيضا، المشكلة هي من سيخبرنا وقد فسدت ثقافتنا أن مقاييسنا فسدت أيضا، وإذا صدَقنا العالم الآخر الذي يرصدنا فقد نصبح بلا هوية أو هكذا سندعي، وإذا لم نصدقه فهل سنبقى، في نظره، فاسدين؟ إن ذلك يشبه كسر جرة العسل، فمن سيقنع الرجل أن ما قام به فساد طالما هو مقتنع بأنه ضحى بعسله لحل المشكلة؟ ولضرب المثل العملي نعود إلى مشكلة البطالة، فهل كل من سيقدم طلبه عن طريق الموقع الإلكتروني سيعتبر عاطلا ويمنح الإعانة؟ هل هناك تدقيق، ومن سيدقق؟ كم سيستغرق التدقيق وقتا؟ لنتجاوز الأسئلة الركيكة، فقد تعطل الموقع الإلكتروني بعد إطلاقه؛ نظرا لاندفاع الطالبين للإعانة. لماذا يتعطل ولدى الوزارة معلومات أن أكثر من نصف مليون عاطل سيندفعون على الموقع؟ قد تكون المشكلة في الناس الذين اندفعوا وهم غير مستحقين لهذه الإعانة، فالبعض يفسر البطالة بطريقته الخاصة، فمثلا لو كان لدى أحدهم سجلا تجاريا ولم يستخدمه بسبب صعوبات كبيرة مثل التمويل والمنافسة والخبرة وغيرها كثير، كيف سنقرر إن كان عاطلا أم يعمل أم لديه فرصة عمل؟ فإذا مُنح الإعانة شكر وإذا لم يمُنح اتهم البلاد والعباد بالفساد، فمن سيقنعه أننا غير مفسدين؟ ما المقياس، ومن سيقيس؟ ثم من يلومه إذا كان من سيعرّف البطالة من غيرها هم أشخاص على عدد أصابع اليد الواحدة ليحزوا بتعريفهم لها رقاب إعانة الآلاف؟ أقول إن الفساد نسبي، فالذين سيقررون العاطل من غيره ليسوا مفسدين في نظرهم، فهم يحافظون على المال العام ويضمون أن تذهب الإعانة لمن يستحقها، والذين يرون في أنفسهم الاستحقاق سيعتبرون إخراجهم من الدائرة فسادا، القضية دائما قضية الراصد والاستقلال عن المقياس، فلماذا لا تصدر عن لجنة وزارية تحديد دقيق لمعنى البطالة المستحقة للإعانة؟ ولجنة وزارية هنا تعني لجنة مشكلة من وزراء وليس من ممثليهم حتى الدرجة الرابعة! كان يكفي لمقالي أن يقف هنا لكن الهم أكبر، فكل نظام يصدر سيخلق في طياته فرصا للفساد. والفساد ليس محصورا - كما قلت سابقا - في الاختلاس واستغلال السلطة، بل أحيانا يتضمن الإخلاص في تنفيذ القرار حتى يخرج القرار من روحه ومضامينه، وفي ذلك سأضرب مثالا آخر، فعندما أمر خادم الحرمين الشريفين بصرف راتب شهرين مكافأة لموظفي الدولة، جاءنا من يفسر ''موظفي الدولة'' وفقا لحرصه على المال العام. فبدأ يسأل من هم موظفو الدولة الذين ذكرهم الأمر السامي؟ لتبدأ السلسلة المعروفة من الخطابات تتقاذفها المكاتب والوزارات كلها تعلوها كلمة ضخمة (عاجل جدا)، ولا أحد يعرف ''لعاجل'' هذه معنى سوى أن الصرف سيتأخر لمجموعة من موظفي الدولة حتى يأتي الرد. لا أعرف هل مشكلة الفساد هنا تشبه العسل المسكوب أم ..، أقول الله أعلم. نقلا عن الاقتصادية