بعد أكثر من خمس سنوات على «الركود الكبير»، لا تزال الولاياتالمتحدة منهمكة في فهم الأسباب التي رافقته وإعادة تقويم أداء المسؤولين وردود فعلهم في خريف عام 2008 والأشهر التي تلته. وصدر تقريران في هذا السياق، الأول عن «مجلس المستشارين الاقتصاديين» في البيت الأبيض بعنوان «التأثير الاقتصادي لقانون الإنقاذ وإعادة الاستثمار الأميركي» الصادر عن الكونغرس بطلب من إدارة الرئيس باراك أوباما، وسمح بموجبه للحكومة الفيديرالية بإنفاق رزمة من الحوافز المالية بلغت 832 بليون دولار، والثاني الصادر في العاصمة الأميركية في عطلة نهاية الأسبوع، الذي تمثل بإفراج «الاحتياط الفيديرالي» عن محاضر اجتماعاته التي عقدها في الأسابيع التي ترافقت مع اندلاع الازمة في أيلول (سبتمبر) 2008. ويشير الأول الى أن الجمهوريين عكفوا، على رغم موافقة الكونغرس الذي كانت تسيطر عليه غالبية ديموقراطية في حينه على رزمة مشابهة بطلب من الرئيس الجمهوري جورج بوش قبيل خروجه من الحكم بأسابيع وللهدف ذاته، على انتقاد خطوة رئيسهم الديموقراطي فقط واتهموه بتبديد أموال دافعي الضرائب، وانسحب الاتهام على القانون المذكور المعروف ب «خطة الحوافز» بالفشل وبعدم التوصل إلى أي نتائج على الصعيد الاقتصادي. لكن تقرير «مجلس المستشارين الاقتصاديين» يعتبر أن الخطة موضوع الجدل ساهمت في زيادة نمو الناتج المحلي بنسبة تتراوح بين 2 و3 في المئة (بين نهاية 2009 حتى منتصف 2011)، وفي خلق نحو 9 ملايين وظيفة حتى نهاية عام 2012. واستند المجلس إلى تقارير «مكتب الموازنة» التابع للكونغرس لتبيان ان «خطة الحوافز» كرزمة متنوعة تضمنت 212 بليون دولار من الاقتطاعات الضريبية للمواطنين، و296 بليوناً خُصصت للإنفاق الطبي وتمويل برامج البطالة، و279 بليوناً أُضيفت إلى الموازنة السنوية الجارية للحكومة الفيديرالية لإنفاقها على برامج متنوعة، من شأنها المساهمة في تأسيس مشاريع وتحريك الركود. ورأى التقرير أن من دون هذه الخطوات كان يمكن ارتفاع نسبة الفقر بين الأميركيين 4.5 في المئة بين عامي 2007 و2010، لكن نتيجة الحوافز الضريبية، ازدادت هذه النسبة نصف نقطة مئوية فقط. كما ساهمت أموال الخطة» في منع زيادة 1.7 في المئة على معدل الفقر، ما يعني أنها «منعت انزلاق 5.3 مليون أميركي نحو الفقر خلال عام 2010». وختم تقرير البيت الأبيض مؤكداً أن تأثير الإنفاق المذكور على الدَين العام كان «هامشياً تمثل بزيادة 0.1 في المئة من حجم الناتج المحلي إلى 75 سنة من العجز». ومع أخذ التأثير في النمو الاقتصادي الذي تسببت به الخطة، يتبين أن تأثيرها في نمو الدَين العام هو في أقل كثيراً مما يبدو». هكذا، يحاول البيت الأبيض الإيحاء وكأن «خطة الحوافز» التي أطلقها عام 2009 كانت مثابة خطوة مدروسة، جاءت كخشبة إنقاذ للأميركيين واقتصادهم. والمعروف أن في مطلع عام 2009، لم تكن إدارة أوباما ولا غالبية الاقتصاديين الأميركيين يدركون مدى فداحة الأزمة أو أنجع السبل لمواجهتها، ما حدا بأوباما في مؤتمره الصحافي الأول الذي عقده كرئيس في 10 شباط (فبراير) 2009، إلى القول ان ما تحاول إدارته القيام به هو «وضع قعر لمنع مزيد من الانهيار الاقتصادي، ومتى أُوقف الانهيار يمكن العمل بعد ذلك على استعادة النمو». الجهل الأميركي لفداحة الأزمة في حينه، بدا جلياً أيضاً في التقرير الثاني. اذ تظهر المحاضر سوء تقدير القيّمين على المصرف المركزي للأزمة، إذ رددوا خلال اجتماعاتهم أن القطاع المصرفي الأميركي «متين» ويمكنه امتصاص أي تباطؤ في الاقتصاد. كذلك، تظهر أن المؤشرات التي كان رئيس الاحتياط بن برنانكي وأعضاء مجلسه يستدلون بها على قوة الاقتصاد الأميركي، كانت في معظمها مؤشرات هامشية، اتضح في ما بعد عدم إمكان الركون إليها للاستدلال على واقع الأداء الاقتصادي او إمكان وقوع أزمة. وتشير أيضاً الى أن برنانكي أدرك فجأة في الأسبوع الثالث من أيلول 2008 فداحة الموقف، فانقلب موقفه وحضّ العاملين معه على «فتح خط اعتماد وتسليف» للمصارف الأميركية في مرحلة أولى، ولتلك العالمية في مرحلة ثانية. وجاء انقلاب موقف برنانكي بسرعة حملته على التحرك وسط عطلة نهاية ذلك الأسبوع. وتوضح المحاضر المذكورة إلى أن الاحتياط الفيديرالي ضخّ أكثر من نصف تريليون دولار للمصارف والمؤسسات الأميركية، التي كانت تبحث بيأس عن سيولة ونقد لتسيير أمورها، في وقت اختفى المستثمرون بسبب الخوف الحاصل على أثر انهيار بعض المؤسسات المالية الكبرى. وتشير مصادر أميركية، الى أن حجم السيولة التي ضخها الفيديرالي في الأشهر الأولى من الأزمة بلغ 13 تريليون دولار. فيما تظهر المحاضر التي رُفعت عنها السرية قبل أيام، أن الأموال الفيديرالية توافرت أيضاً لمصارف العالم المركزية، كما في السويد وبريطانيا مثلاً. وقدم «الاحتياط الفيديرالي» بلايين الدولارات نقداً إلى المصارف المركزية الأوروبية في مقابل حصوله على العملة المحلية لهذه المصارف. وتقاضى «المركزي» الأميركي فائدة على الأموال التي أقرضها للمصارف العالمية، ثم استعاد ودائعه وأعاد ودائعها بعد تدفق السيولة مجدداً على الأسواق في شكل طبيعي. ويعزو خبراء أميركيون اليوم قيام مصرفهم المركزي بهذا الدور في حينه، إلى كون الدولار العملة العالمية شبه الرسمية ما جعل من مجلس الاحتياط، مصرف العالم المركزي. هكذا، بعد خمس سنوات على وقوع أزمة 2008 المالية، لا يزال الخبراء والاقتصاديون والمسؤولون الأميركيون يراجعون تفاصيلها، ويعكفون على درسها كوسيلة لاستنباط الدروس اللازمة منها لتفاديها مستقبلاً، ولكتابة سياسات تحدد كيفية التعامل معها في حال اندلاعها، حتى لا تقع أي أزمة مشابهة في المستقبل تفاجئ أياً من المسؤولين وتكون ردود فعلهم ارتجالية، كما حدث في بعضها عامي 2008 و2009.