إذا كان القضاء يُنْتِج الأمن والعدل والنظام في المجتمع، فإن ذلك لا يستقيم من دون تركُّب القضاء نفسه على خاصية النظام، وأقصد هنا توحّد الأحكام الصادرة من قضاة مختلفين تجاه القضية الواحدة، ووضوح المركز القانوني للفرد بشكل سابق للأحكام الصادرة عليه. وهذا لن يحدث ما لم يقم القضاء على أنظمة وقوانين مفصَّلة، وهذه مهمة تشريعية وليست مهمة القضاة لأنها تقتضي الوقت والجهد واتساع النظر بما يجاوز المحلية أو الحالة المفردة. ومن غير شك فإن الأنظمة والقوانين مصطلحان حديثان، يدلان على اطراد الأحكام اطراداً يحمل معنى الاستقرار والاستمرار والنظام، وذلك في مقابل مصطلح قواعد الفقه أو أحكام الشريعة المتداولين منذ القديم، واللذين تحفل الكتب الفقهية التي يستعين بها القضاة بتعددهما. ومعنى ذلك أن صياغة أحكام الشريعة الإسلامية في مدوَّنة فقهية قانونية أمر لازم لزوم وحدة الأحكام في القضية الواحدة، والتحديد للحقوق والواجبات بشكل علني ومسبق تحقيقاً لمبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص». ونتيجة هذه المدوَّنة القانونية الشرعية أنها تجعل كل شخص يعرف ما له وما عليه، وتمكِّن المتقاضين من التنبُّؤ بأحكام القضاء، وتتضح بها الصفة القانونية للممارسة القضائية في المملكة أمام المجتمع الدولي وفي المعالجات الإعلامية التي كثيراً ما تحتدم في وسائل الإعلام تجاه هذه القضية أو تلك. ويبدو أن مهمة من هذا القبيل ليست يسيرة، على مستوى الاستيعاب لأحكام المعاملات الناجزة في الفقه وعلى مستوى الاجتهاد في القضايا الحادثة، وملاءمتها في ضوء السياق الزماني والمكاني، و- من ثم – ضرورة التجديد والتطوير ومجاوزة الجمود في التصورات والقواعد والأحكام المبنية عليها. لكن هذه فائدة تضاف إلى فوائد قَوْنَنَة الشريعة. ولنأخذ مثالاً قضية «تكافؤ النسب» أو «تزويج الصغيرات» فهي تقتضي قانونياً وصف الجريمة وتعريفها ووضع شروطها والعقوبات المترتبة عليها، كي يصبح من يقترفها عالماً بنتائج ما أقدم عليه. ولا بد من أن يؤخذ بعين الاعتبار الأعراف والمواثيق الدولية التي وقَّعت عليها المملكة –وهي في الصميم من التلاؤم مع مقاصد الشريعة وإنسانيتها- مثل مكافحة العنصرية وحقوق الطفل. وهذا يشف لنا عن مبلغ المشقة والحرج اللذين يواجهان القضاة – أعانهم الله – في مؤسستنا القضائية، في الوضع الحالي. فالقاضي هنا يجمع إلى جهد تنزيل الحكم على الواقعة المعاينة جهد التشريع، وأعني بالتشريع البحث المستفيض في آراء مختلفة أو لا تحمل من وضوح الوصف والتعريف والتدليل ما يقرِّب مسافة الوصول إلى الحكم، وينتج عن ذلك مَرْكَزَة القاضي في مسار الحُكم. إن مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله لتطويرالقضاء، لهو دليل على الإدراك لأهمية القضاء من جهة وما يواجهه من مشكلات من جهة أخرى، وإن هذا المشروع الكريم لن يكتسب نجاعة من دون بحث مسألة التشريع وفصلها في مدوَّنة عن القضاء.