تعطُّش المراقبين للمشهد السياسي لنتائج مفاوضات إيران ومجموعة 5+1 في جنيف، يقابله تعطّش أشد من قبل حكومة «روحاني» لتحقيق المكاسب المرجوّة قبل فوات الأوان. ورغم مماطلة طهران عشر سنوات لربح الوقت وسَعيها لإخفاء مشروعها النووي، إلا أن الوقت لا يصب الآن في مصلحة طهران. وفي حين وَجّه «فيروز آبادي» رئيس القيادة العامّة لأركان القوّات المسلحة الإيرانيّة، دعوة للإدارة الأمريكيّة لاستثمار الفرصة التاريخيّة التي أتاحتها الدبلوماسيّة الإيرانيّة الإيجابيّة حسب قوله، فواقع الحال يؤكّد أن حكومة «روحاني» متشوّقة أكثر من غيرها لاستثمار فرصة إنقاذ النظام بل الدولة خاصّة وأنها تعيش بين مطرقة العقوبات الدوليّة وسندان الضغوطات الداخليّة. وعلى الصعيد الداخلي، يواجه «روحاني» كثيراً من الأزمات ويعلّق آمالاً كبيرة على نجاح المفاوضات والرفع التدريجي للعقوبات وانتعاش الاقتصاد لإسكات الأصوات الداخليّة المتربّصة بحكومته، وأي إخفاق في المفاوضات سيؤدي لفقدانه شعبيّته سواء من قِبَل منتخبيه أو معارضيه الذين دعوا لمقاطعة الانتخابات ولكنّهم تحوّلوا إلى مؤيّدين له لقناعتهم بتهديد الكيان الإيراني والوحدة الجغرافيّة عند سقوط النظام. ويواجه «روحاني» تحديّاً من التيّار المتشدّد المتمركز في «طهران» و«قُم» و«مَشهَد»، إذ ساهمت حكومة «نجاد» في تغيير البُنى الاجتماعيّة الإيرانيّة بنقلها جزءاً كبيراً من السلطة من التجّار والتنوقراطيين إلى التيّار اليميني المحافظ بزعامة «مصباح يزدي» عضو مجلس خبراء القيادة ومؤسّس «مؤسّسة الخميني». ورغم أن العقوبات تضغط بشدّة على عامّة الشعب، إلا أنها تعود بالأرباح الطائلة على من أطلق عليهم «نجاد» الإخوة المهرّبين في إشارة للحرس الثوري. ويستحوذ الحرس على شبكات غسيل الأموال والاختلاسات الماليّة، المصارف، السُّفن التجاريّة، شركات النقل، الأرصفة السريّة، المقاولات والشركات النجوميّة داخل البلاد وخارجها، والمعروف أن غالبيّة مستشاري «خامنئي» يتشكلون من قادة الحرس والباسيج، الأمر الذي يمكّنهم من التأثير على قراراته، ثمّ إن العقوبات تساهم بنسبة كبيرة في تأجيج الشارع وحالة الغليان مع إمكانيّة اندلاع احتجاجات عارمة، لذا تبقى أيادي الحرس والباسيج التابع له طليقة لمواصلة تشديد الأجواء الأمنيّة التي تساهم بدورها في تنامي قوّة الحرس والباسيج، لذا فإن معارضتهما لرفع العقوبات مردّها النفوذ الاقتصادي والأمني والسياسي في إيران ولا علاقة لها بالعقيدة وشعارات المقاومة المزعومة. ويتبع «خامنئي» سياسة توزيع الأدوار، فمن ناحية أطلق شعار «المرونة البطوليّة» وأيّد مواقف «روحاني» حيال العلاقة مع أمريكا كما فسح المجال لمندوبيه المنتشرين في سائر المُدن لمباركة خطوات الوفد الإيراني بنيويورك تجاه التقارب مع واشنطن، ومن الناحية الأخرى وَصَفَ بعض تصرّفات الوفد بأنها «ليست في محلّها» ولكن دون الإشارة إلى أي من هذه التصرّفات! وتشير بعض المصادر إلى أن «خامنئي» وَضَعَ سقفاً زمنيّاً لا يتجاوز العام الواحد أمام «روحاني» لتنفيذ سياساته، وفي حال فشل الأخير بتحقيق المكاسب المرجوّة من واشنطن، فإن الأوّل لم يغلق أبواب العودة إلى التشدّد، وقد تجد إيران نفسها مُرغمة للسير نحو تطبيق الأنموذج الكوري الشمالي لبرنامجها النووي، ولا شك أن النتيجة الحتميّة لهذا الأنموذج هي مزيد من العُزلة الدوليّة والإقليميّة وتفشّي الفقر المدقع في البلاد، مع إمكانيّة حدوث تصدّعات كُبرى داخل النظام والدولة. وفي الوقت الذي رحّب فيه 80% من الإيرانيّين بالعلاقة مع أمريكا، يبدي التيّار الديني ومعه العسكر مخاوف شديدة من هذا الاستقبال الكبير خشية من ارتفاع سقف المطالبات الشعبيّة لإبداء مزيد من المرونة في توطيد هذه العلاقة. وعندما لوّح «رفسنجاني» رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام إلى قول «الخُميني» بإمكانيّة إلغاء شعار «الموت لأمريكا»، تعرّض إلى هجوم لاذع من قِبَل رجال الدين وتيّار «نجاد» وكذلك التيّار المؤيّد ل«خامنئي» في آن واحد، فاتهموه بتزوير أقوال «الخميني». واتساع الشرخ بين الشعب والنظام يؤكّده «حسين الله كَرَمْ» رئيس لجنة تنسيق قوّات حزب الله بإيران بقوله إن «أوباما وحلفاءه يخططون لانقسام الشارع الإيراني وقيام عصيان مدني خلال قضيّة علاقة طهرانبواشنطن»، ويرى «إسماعيل كوثري» عضو اللجنة الأمنيّة التابعة للبرلمان أن «أمريكا تسعى للفتنة فيما بين الشعب والقيادة في إيران». ويذهب بعضهم في تحليله إلى ما هو أبعد من ذلك، فيرى أن إيران تقع الآن أمام مفترق طرق، كلاهما أخطر من الثاني. ويتمثل الأوّل في إمكانيّة حدوث انقلاب من داخل النظام مرده الصراع على السلطة فيما بين قادة إيران وسيؤدّي لانهيار مراكز الدولة وترافقه أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة أكثر حدّة ممّا هي عليه الآن، إضافة إلى إمكانية اندلاع ثورات شعبيّة غير منظّمة مع غياب الأحزاب السياسيّة الفاعلة. أما ذريعة الانقلاب فهي إنقاذ البلاد من الأزمات ومنع تقسيمها واستتباب الأمن وإقامة النظام، وسيحظى هذا الانقلاب بدعم ومباركة أجنبيّة، علماً أن الأوضاع في إيران اقتربت من هذه المرحلة عدّة مرّات إلا أن الانتخابات الأخيرة ساهمت في إنقاذ النظام. وأما الطريق الثاني فيكمن في الحرب الأهليّة وانهيار الوحدة الجغرافيّة لما يسمّى بإيران، وسينجم هذا الحدث عن التعنّت الإيراني حيال الملف النووي والتمسّك بإنتاج السلاح الذرّي ممّا سيعرّضها لضربات عسكريّة تستهدف المراكز الحسّاسة للدولة ومنشأتها العسكريّة وانشغال بقايا العسكر في المدن الكبرى بالحفاظ على النظام، وترافقها فقدان السيطرة على أجزاء كبيرة من الحدود ولا شك أن قوى أجنبيّة ستستغل الثغرات الحدوديّة فتؤدي دورها لإذكاء الصراع ودعم بعض الأطراف، على غرار ما حدث في «يوغسلافيا». ويخشى كثير من قادة إيران ممّا ستؤول إليه الأوضاع عند وفاة «خامنئي» وما سينجرّ عنه من انهيار بُنية النظام وعدم اِنصياع قادة العسكر وزعماء التيّار الديني لقرارات العاصمة، وبدء الصراع فيما بين قادة العسكر ورجال الدين، إضافة إلى عصيان مندوبي «خامنئي» وخشيتهم من فقدان السلطة والنفوذ، الأمر الذي سيساهم في تجزئة البلاد وتقسيمها تحت تأثير حرب أهليّة، مع استغلال الشعوب غير الفارسيّة ضمن جغرافية ما يسمّى بإيران فرصة زعزعة الدولة المركزيّة وقيامها بثورات يصعب السيطرة عليها فتعلن اِستقلالها عن الدولة المركزيّة في طهران، خاصّة أن هذه الشعوب تبدو متعطّشة لنيل حريّتها من هيمنة الدولة الفارسيّة المحتلّة.