لا أجد توصيفا ينطبق على الجدل العقيم الذي تطرح من خلاله قضايا تتصل بالشأن الثقافي والاجتماعي في مشهدنا السعودي كالنقاش الذي يدور عن وضع المرأة والوضع القضائي وعلاقة المثقفين بعضهم ببعض، وذلك من خلال الوسائط الاجتماعية مثل تويتر وفيسبوك، وفتح هاشتاقات حولها، سوى أنه واحد من الأمراض التي تعانيها ثقافتنا الراهنة. حين تتبع ما يدور من تغريدات وتغريدات مضادة حول أي قضية ثقافية كالحديث عن التحولات الفكرية والثقافية التي جرت منذ الثمانينيات والتسعينيات إلى ما بعد الألفين، فإن الحديث في أغلبه يرتكز على خلفية الأشخاص فقط دون ربط ذلك بالظاهرة وتحولاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية. إذ سرعان ما سوف تكتشف سطحية الحوار واختزاليته؛ حيث لا تطرح فيه أسئلة الثقافة المحلية بوصفها ظواهر متعددة من الأزمات، بل بوصفها أسئلة مرهونة إجابتها بالكشف عن جزء من أرشيف حياة هذا الكاتب أو ذاك. وإذا كان تاريخ ثقافتنا المحلية لم يسجل لنا توجهاً نحو كتابة في سير الأشخاص، تعتمد على المكاشفة والاعتراف وتحمل المسؤولية ومواجهة الرأي العام، فإن هذا التوجه لم يقتصر على الداخل، بل الثقافة العربية مازالت تعيش مثل هذا المأزق. والسؤال الذي أود طرحه في هذا الإطار وفق ظاهرة التغريدات المتبادلة أو ظاهرة الهاشتاقات، على أي منظور أو وسائل منهجية نعتمد، حين نريد أن نقرأ ماضينا الثقافي قراءة نقدية؟ الكشف والتنقيب عن الأرشيف التاريخي لحياة الأشخاص الذين ساهموا في صناعة تاريخنا الثقافي هو ضرورة، ومن يقوم بهذه المهمة من مثقفينا، هو في واقع الأمر يؤدي وظيفة تساعد كثيرا على فهم المشهد من العمق. لكن ذلك يعتمد في تصوري على قدرة من يقوم بهذه المهمة، على تحويل الأرشيف الشخصي لهذا الكاتب أو المبدع أو المفكر، والارتفاع بمعلوماته من مصاف الدلالة الشخصية إلى الدلالة على الظواهر التي تشكل أزمة حقيقية في مشهدنا. خذ على سبيل المثال طريقة النظر إلى تبدل مواقع هذا الكاتب أو ذاك سواء على مستوى قناعاته أو مواقفه أو أفكاره المرتبطة بهذا التيار أو ذاك. فكثير -مع الأسف- من الذين يمارسون العمل الثقافي تحت عنوان عريض اسمه التأريخ، يجد في هذا النوع من التبدل وثيقة فضائحية يقرنها تارة بالمصلحة الشخصية، وتارة أخرى يرميها على النفاق الاجتماعي، متناسيا تماما أن مثل هذه التبدلات في المواقع قبل أن تقرأ بهذه الطريقة أو تلك، ينبغي أن يوظف الأرشيف لاستخلاص أبرز الأسباب الموضوعية التي تجعل النفاق الاجتماعي جزءاً من الممارسة الثقافية أو أن المصلحة ينظر إليها من الزاوية الشخصية فقط، وذلك حين تستعمل كوثيقة فضائحية. لذلك أجد من المناسب هنا التذكير بأن المصالحة مع الماضي الثقافي (الذي هو في مجموعه يشكل حياة كل ذات مبدعة) وفهمه، لا يتطلب ترهينه على جدل اللحظة، وما تكتنزه من صراع بين إسلاميين وليبراليين، بل يتطلب فهما شموليا للمرحلة التي تعصف بنا جميعا، وهذا الفهم يتعالى على كل إدانة شخصية وجدها هذا الباحث أو ذاك، وذلك لأجل أن تكون حكاية ماضينا مكتملة النمو والنضج. من جهة أخرى، قد يكون التعامل مع الأرشيف هو تعامل مع ذهنية المؤسسة بوصفها سلطة. وذهنية المثقف بالتأكيد تتعارض مع هذه الذهنية، فعقلانية المؤسسة وبيروقراطيتها، تختلف عن عقلانية المثقف، هذا لا شك فيه، والانخراط في دواليبها، قد يتحول الإنسان فيها إلى مجرد آلة أو رقم. هذا ما اكتشفه الغرب وقام بنقده، وتبيان خطره على الفرد والثقافة سواء بسواء. لكن الكشف عن تاريخ الأرشيف الشخصي، ومن ثم ربطه بأرشيف أي مؤسسة، على اعتبار أن منجز هذا الشخص أو ذاك يتعلق بالمؤسسة ذاتها، هو في النهاية يهدف إلى بناء تصور عن عمل المؤسسات على أرض الواقع، قد يصحح كثيراً من المفاهيم التي تدور حول المؤسسات وطريقة عملها داخل المجتمع. هذا البناء قد يساعد في تطور المؤسسة نفسها إذا كان مبنيا على تجربة وخبرة عمليين. أما الحديث عن المؤسسات، نظريا مجردا، فلا يفضي سوى إلى مزيد من سوء الفهم للإيجابيات العديدة التي يمكن استثمارها في جميع الاتجاهات. علاوة على ذلك فإن تأسيس العلاقة بين متطلبات الكشف عن الأرشيف الشخصي والبحث عن صلته بالمؤسسة له اشتراطات، أهمها تتضمن العمل من داخل المؤسسة ذاتها، بحيث إن هامش الحرية المتاحة بإمكانها أن تصنع كثيراً، في تشجيع المؤسسة على المبادرات الكفيلة بتنمية المجتمع والمثقف ذاته، دون السقوط في فخ تقاليد سلطة المؤسسة. هذه معادلة بالتأكيد فيها من الصعوبة الشيء الكثير. لكن إرادة التغيير عند الإنسان هي المعول والرهان في النهاية. ربما ينبغي التذكير هنا أن تاريخ المؤسسات الغربية، السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والتعليمية، لم تتطور إلا بعدما كانت خاضعة لإعادة أرشفة تاريخها، من خلال تأسيس خطاب نقدي حولها، ولاشك أن توفر المعلومة أمام الباحثين ساهم مساهمة فاعلة في تطور المؤسسة نفسها من جهة، وساهم أيضا في تطور الخطاب النقدي والفكري لدى كثير من الباحثين، في نفس الوقت. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل كان هناك تراكم تاريخي لأجيال من الباحثين منذ أواسط عصر النهضة؛ حيث إن هذه المؤسسات الغربية ارتبطت بهم وبإنتاجهم المعرفي في شتى العلوم والمعارف. الأمر الذي رسخ تقليدا قويا في دراسة تاريخ مجتمعاتهم، فأنت لا ترى مفكرا أو باحثا أو فيلسوفا إلا وله ارتباط بالجامعات أو المؤسسات أو مراكز البحوث، أي أن العمل الجماعي هو واحد من التقاليد العريقة في العمل الثقافي. وليست المدارس التي تنوعت أنشطتها في مجالات عدة، في التاريخ والاجتماع والسياسة والاقتصاد والعلم، سوى القاعدة التي جاءت وفق نظام المؤسسة الذي ترسخ في ذهنية الثقافة الغربية. قد لا أبالغ إذا ما قلت إن جل أزماتنا في إنتاج ثقافة معاصرة ترتكز أساسا على غياب هذا الدور الفاعل والعضوي بين ما ينتجه المثقف وما ينجزه كأرشيف شخصي، وبين المؤسسة كوسيط فاعل في إيجاد صلة قوية بين المجتمع والدولة والفرد. في ثقافتنا العربية التي ظلت وما زالت تتخبط، دون أن ترتكز على تقاليد مؤسساتية – وأنا أتحدث هنا عن العصر الحديث – تكون سمة الفوضى والعشوائية والتوظيف والاستثمار الأيديولوجي هي السمة الغالبة، وهي المسؤولة عن جزء كبير من مظاهر التخلف التربوي والتعليمي، ناهيك عن المسؤولية الكبرى لهذه المظاهر للسياسي.