قلت سابقاً إن جيلَ «خليجنا واحد» هم الأكثر تفاؤلاً بالوحدة الخليجية من بقية أبناءِ الخليج، بعدما تربَوا على أن «مصيرنا واحد… وشعبنا واحد»، وذكرتُ أن تأثيرَ هذه الكلماتِ على أهل الخليجِ من حيث الترابطِ والتقاربِ والوحدة أكثر من تأثيرِ كلِ الكلماتِ وكلِ القراراتِ وكلِ الاتفاقاتِ الحكومية التي لا تُرَى في غيرِ المطبوعاتِ الرسمية والمؤتمراتِ الصحفيةِ. وأجملُ ما في الأمر أن قضايا أبناءِ الخليجِ في كلِ دولة يتولى الدفاعَ عنها أبناءُ الدولة نفسها، بما يعني أن الشعورَ بالوحدة متحققٌ في حالِ الأفرادِ أكثر منه في حالِ الحكومات، فعندما تحدثتُ عن قضية العسكريين المسرَّحين في دولة الكويتِ عبر مقالٍ سابق «خليجنا واحد.. تسريح العسكريين!» أتى مستشارُ جمعية الصحفيين الكويتية الدكتور عايد المناع ليكتبَ تعليقاً في موقعِ الشرقِ مبدياً استغرابه ألا يُعامَل الخليجيون معاملة المواطنين، وداعياً إلى إعادة العسكريين المسرَّحين في دولة الكويت، وهو ما حدثَ بالفعلِ بعد يومين من نشرِ المقال، والواقعُ أني لم أستغربْ أن يصدرَ هذا القرارُ من أمير دولة الكويتِ – حفظه الله- فالطيب لا يُستغرَبُ من أهل الطيبِ، و(الكرام إذا ما أيسروا ذكروا… من كان يألفهُم في الموطنِ الخشنِ). يمكن اعتبارُ هذا المقالِ امتداداً للمقالِ السابقِ، وبهدفِ الدعوة إلى تعزيزِ الوحدة الخليجيةِ، وتقوية أواصرِ الإخاءِ بين شعوبٍ ذاتِ مصيرٍ واحد، خصوصاً أنها تعيشُ وضعاً هي أحوجُ ما تكونُ فيه إلى التقاربِ والوحدةِ، والمؤسفُ أن الوحدة الخليجية ما زالت في إطارِها النظري، وما زالت مشروعاً وهمياً تعبثُ به البيروقراطيةِ، وينخرُ فيه سوسُ العادة والرتابة والخوف من التغييرِ!، فكثيرة هي الأشياءُ التي نمارسُها من بابِ العادة لا أكثر، ونرفضُ تغييرَها من غيرِ سببٍ واضح، أو لمجردِ أُلفَتِها والإحساسِ بأنَّ تغييرَها فيه خرقٌ لقواعد الكون وسننِ الطبيعة!، ويا لِصعوبة المهمة التي يواجهُها الإنسان عندما يريدُ التغييرَ في مجتمعاتٍ راكدة، فلستُ أدري ما الحكمة من منعِ العسكريين الخليجيين من السفرِ بين دولِ الخليج، ولا أعرفُ لماذا الإبقاءُ على هذا المنعِ كل هذه السنين!، على الرغمِ مما يسببُه من أضرارٍ نفسية واجتماعية لفئاتٍ معينة من المجتمعِ، ويحرمُها من التواصلِ مع أقاربٍها!. فمع أنَّي لا أعرفُ -على وجهِ التحديدِ- أسبابَ منعِ العسكريين من السفرِ، لكنَّ الأكيدَ أن درجاتِ المنعِ تتفاوتُ من بلدٍ إلى آخر، ومهما تكن الأسبابُ فإني لا أجدُ مبرراً لاستمرارِ العملِ بهذا القرار، لأنَّ الزمنَ تغيرَ، والوسائلَ تغيرت، ولئن كان هذا المنعُ مبرراً في السابقِ فليس له الآن ما يبرره، فلو كان يتعلقُ بأسرارٍ عسكرية أو معلوماتٍ أمنية كما يُشاع، فليس بالإمكان صدُ هذا الطوفانِ الجارفِ من المعارفِ والمعلوماتِ بهذه الوسائلِ البدائية العتيقة، بل إن الذي يريدُ كتمَ أسراره العسكرية ومعلوماتِه الأمنية بهذه الطريقةِ، هو كمن يريدُ أن يكسبَ معركة بسيفٍ ورمح!، إنه لا يدري أن هذه الأشياءَ لا تُرَى في هذا الزمنِ في غيرِ المتاحفِ والمناسباتِ! ما دعاني لكتابة هذا المقالِ هو حجمُ ما أسمعُه من الاحتجاجِ والتذمرِ على هذا القرارِ، من الإخوة العسكريين بشكلٍ خاص، إضافة إلى حالاتٍ إنسانية رأيتها بعيني، لعلَّ آخرها ما حدثَ قبل شهرٍ تقريباً، عندما علمَ أحدُ الإخوة العسكريين بوفاة شقيقته المقيمة في دولة خليجية مجاورة، فكان يتواصلُ مع أسرته هناك عن طريقِ الهاتفِ الجوال، إذ ليس يمكنه السفرُ وإلقاءُ نظرة الوداعِ الأخيرة على جثمانِ شقيقتِه، كما أن حصولَه على إجازة خارجية يحتاجُ إلى وقت، مع أن المسافة الفاصلة بين مقرِ عملِه ومستقرِ شقيقته لا يزيدُ عن ال 200 كلم! إن العلاقة بين دولِ الخليجِ العربي يجبُ أن تكونَ استثناء، ومن الواجبِ تسهيلُ عملية التنقلِ بين هذه الدولِ لجميعِ المواطنين بما فيهم العسكريون، بحيث يكونُ السفرُ بينها كالسفرِ بين مدينة ومدينة في نفسِ الدولةِ، توطيداً للعلاقة وتكريساً للانتماء، وليشعرَ أبناءُ الخليجِ أن مصيرَهم واحدٌ بالفعل، وأن الارتباطَ بينهم هو ارتباطُ وجودٍ لا حدود، لتتحولَ دولُ الخليجِ من التعاونِ إلى الاتحاد، وليرددَ أبناءُ الخليجِ بِوعْي «الله أكبر يا خليجاً ضمنا».