كل مجتمع عند تأسيسه ونشأته تجد أنه يكافح ويعمل بشتى الوسائل على إيجاد البنى والأركان الوطيدة التي تضمن استقامة حياته وضبط سيرها وانتظامها ضمن مسار صحيح وسليم بحيث تعمل على منع انحرافه عن هذه الأسس والمرتكزات؛ لأن الخروج عليها يعني حدوث خلل في بنيانه مما يؤثر في النهاية على حياة المجتمع وأفراده. ومجتمعنا – نحن السعوديين – في بداية تأسيسه مر بهذه المرحلة العملية وذاق مصاعب الحياة والتقشف وكان بعيداً كلَّ البُعد عن تقاليد الرفاهية والدعة والاتكالية، فكل فرد سواء كان رجلاً أو أنثى كان يعمل بقدر طاقته وبأسلوبه الذي يتفنن به، فتأسس المجتمع بهذه الصورة الجميلة التي تدعو إلى الفخر والاعتزاز، ولكن مع التحولات الاقتصادية والثقافية التي مر بها مجتمعنا في الثلاثين عاماً الماضية وتحديداً مجيء الطفرة تغيرت معالمُ كثيرةٌ في مجتمعنا، وبرزت ظواهر لم تكن مألوفة آنذاك؛ ومن هذه الظواهر بروز التمظهر الاجتماعي. في مقال سابق لي كان بعنوان: «وعي الفرد الاقتصادي»، ذكرت فيه أن المجتمع السعودي مجتمع استهلاكي وغارق في العملية الاستهلاكية بشكل كبير حتى وإن حَمّل نفسه ديوناً يعاني من تسديدها طوال فترة حياته، وهذا مع الأسف صار عرفاً لدى كثير من أبناء المجتمع اليوم. ما أنا بصدد الحديث عنه في هذا المقال هو بروز هذه الظاهرة أعني التمظهر الاجتماعي الذي استشرى في مجتمعنا بشكل كبير، وأصبحنا نعاني من هذا الجانب كثيراً، وربما نعزو ذلك إلى ضعف رب الأسرة ودوره في تسيير حياة أسرته، فيصبح رب الأسرة عاجزاً لا حول له ولا قوة لا يستطيع تلبية طلبات زوجته وأولاده بقصد التفاخر والمباهاة بما يمتلكونه من تلك الأدوات الاستهلاكية، وكل أسرة تراقب الأسرة الأخرى وماذا سوف تشتري؟ وإلى أين ستسافر؟ وماذا عساهم أن يفعلوا؟ فتجد كثيراً من الأسر تعزف على وتر التقليد الأعمى، وتتمظهر أمام الناس لتوحي للبعض الآخر بأنهم قادرون على فعل كل شيء. التمظهر الاجتماعي داء مميت في المجتمعات، وخصوصاً إذا تمت تغذيته وشحنه من قبل بعض الناس ومن وسائل الإعلام فإنه يُدمر الأسر، ويولد الحسد والحقد والضغينة والتباعد بين الأقارب والأصدقاء، ولا يقبل عليه إلا من يستشعر في نفسه النقص؛ لأن التقليد الأعمى للآخرين هو في الأساس نقص في شخصية المقلّد، وقد يؤثر التمظهر الاجتماعي في حياة كثير من الأسر اجتماعياً، فقد يسبب الطلاق بين الزوجين وخصوصاً إذا لم يستطع الزوج تأمين أي طلب لزوجته لتتمظهر به أمام الآخرين، وكذلك قد يسبب بعض المشكلات الأسرية في المنزل بين رب الأسرة وأولاده بسبب عدم تلبيته لطلباتهم الاستهلاكية. وقد ذُكر أن «الماركات» هي أكبر كذبة تسويقية صنعها الأذكياء لسرقة الأغنياء فصدقها الفقراء، فأتوا مهرولين إلى منتج تلك الشركات ليشتروا مقتنيات الأغنياء وهم لا يعلمون أن أغلب الأغنياء لا تهمهم مثل هذه الشكليات ولا يعيرونها أدنى اهتمام بسبب ثقتهم بأنفسهم وبوضعهم المادي الاجتماعي. إذاً من هم الذين يتأثرون بالتمظهر الاجتماعي؟ إنهم الطبقة الوسطى من المجتمع والطبقة التي تليها، والأمثلة كثيرة على ذلك؛ منها السفر في الإجازات، وعمل المناسبات الكبيرة المكلفة، والالتحاق بالمدارس الأهلية الباهظة الثمن وغيرها، التي يقف إزاءها رب الأسرة عاجزاً عن تحمل تكاليف ذلك التمظهر، وتصبح تلك التكاليف وبالاً عليه أغلب فترات حياته؛ بسبب أنه أطلق لنفسه العنان في الاتجاه نحو التمظهر الاجتماعي. ولو نظرنا إلى الغرب وتجاربهم في الحياة، وخصوصاً في مجال التمظهر الاجتماعي لما وجدنا هذا الجانب منتشراً لديهم؛ لأنهم يعيشون الحياة البسيطة، وخصوصاً في الملبس والمأكل والمشرب وغيرها من المناسبات والسؤال: ما أسباب وجود هذه الظاهرة؟ يبدو أن الثقة في النفس لها دور كبير في هذا الشأن، والرجل أو المرأة اللذان لديهم الثقة بالنفس من المستحيل أن يتجها إلى التمظهر الاجتماعي، أو يتغلغلا فيها، أما فاقدو الثقة بالنفس وضعيفو الشخصية فهم الذين يبلعون الطُّعم ويخسرون دون استزادة أو فائدة تذكر. ولعلي أكون متوازناً في هذا الموضوع نوعاً ما؛ فهناك على ما يبدو حدث تغيير طفيف لدى فئات من المجتمع عمدت إلى الابتعاد عن هذه الظاهرة والاقتناع بما لديهم حسب مستواهم المعيشي، ولعل هذه الظاهرة تزيد يوماً بعد يوم حتى نستطيع القضاء عليها نهائياً. وختاماً أقول: إن للإعلام المرئي والمقروء والمسموع دوراً كبيراً في بروز هذه الظاهرة، وأيضاً تقع عليه مسؤولية إيجاد الحلول المناسبة لهذه المشكلة، ومعالجة القصور الذي يصدر من البعض في الاتجاه نحو التمظهر الاجتماعي، الذي قد يقوده إلى فقد كل شيء لديه، وكذلك مدارسنا وجامعاتنا وخطباء المساجد لهم دور أيضاً في معالجة هذه الظاهرة من خلال الدورات التدريبية والندوات والإرشادات وخطب الجمعة والمحاضرات حتى نكون مجتمعاً قوياً متماسكاً ينبذ ظاهرة التمظهر الاجتماعي المقيتة التي تهدد سلامة الأسر واستقرارها.