تعتبر العدالة الاجتماعية ركيزة للنظام السياسي في أي مجتمع ومعياراً رئيسياً لقياس أداء مؤسسات الحكم بمختلف مستوياتها الإدارية. في النظم التي تنشد العدالة الاجتماعية والمساواة يتم تسخير البرامج والخطط لإشاعة الاستقرار الاجتماعي وتعميق السلم الأهلي وتجذيره داخل المجتمع بما يعطي دفعة كبيرة لعملية التنمية الإنسانية التي تعتبر الإنسان وسيلة وهدفاً في آن واحد. ثمة تعريفات كثيرة ومتفرعة للعدالة الاجتماعية من بينها ما نشرته وكيبيديا الموسوعة الحرة التي تعرفها بأنها «نظام اقتصادي اجتماعي يهدف إلى إزالة الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين طبقات المجتمع. وتُسمى أحيانا العدالة المدنية، وتصف فكرة المجتمع الذي تسود فيه العدالة بدلاً من انحصارها في عدالة القانون فقط. وهي توفير معاملة عادلة وحصة تشاركية من خيرات المجتمع. وتتمثل العدالة الاجتماعية في النفعية الاقتصادية، وإعادة توزيع الدخل القومي على الفئات المجتمعية، وتحقيق تكافؤ الفرص بين الجميع، وتشكل حقوق الإنسان والمساواة أهم دعائم العدالة الاجتماعية». وفق هذا التعريف، ثمة سؤال يطفح حول مدى تعاطي النظم العربية مع هذا المفهوم الحضاري والضروري تطبيقه لاستقرار المجتمعات، ومدى اعترافها به وبشروطه ومعطياته وتبعاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بعد تفتق القيح في كثير منها وانفجار الدمامل في شوارع العواصم العربية التي تبحث شعوبها عن إعادة توازن بين القلة التي تملك كل شيء تقريبا وبين الأكثرية التي لا تملك شيئاً تقريبا. ودول مجلس التعاون الخليجي ليست مستثناة من محيطها العربي، بل قد تكون في عمق المفهوم ومركزه؛ نظراً للإمكانيات المالية الهائلة التي تتمتع بها والقادرة، إن أرادت، على تطبيقها وجعلها موضع التنفيذ على الأرض. ففي العام 2012 بلغ الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي 1.56 تريليون دولار، مقابل 1.44 تريليون دولار في العام الذي سبقه، وقد تقدم الاقتصاد الخليجي إلى المرتبة الثانية عشرة عالمياً ليأتي بعد اقتصاد كندا، في ظل متوسط سعر لبرميل النفط الخام بلغ 109.1 دولار في العام الماضي. وتقول دراسة اقتصادية لبنك أبوظبي الوطني إن المملكة العربية السعودية تشكل 47% من إجمالي اقتصاد دول الخليج، ودولة الإمارات العربية المتحدة 23%، وقطر 12%، والكويت 11%، وسلطنة عُمان 5 في المائة، والبحرين 2% من إجمالي اقتصاد دول مجلس التعاون الخليجي. وأضافت الدراسة أنه وللمرة الأولى، بلغت قيمة صادرات دول مجلس التعاون الخليجي تريليون دولار أمريكي بنهاية العام 2012 ارتفاعاً من 932 مليار دولار في العام 2011، وهو ما يعادل ضعف صادرات هذه الدول تقريباً في العام 2009 التي بلغت 526 مليار دولار. وارتفع إجمالي الصادرات النفطية والصادرات الأخرى في قطاع الطاقة لدول مجلس التعاون الخليجي إلى مستوى قياسي، إذ بلغت 692 مليار دولار بنهاية العام 2012 ارتفاعاً من 644 مليار دولار في العام 2011. لاشك أن هذه الثروات فلكية، ويسيل لها لعاب الدول الأخرى التي تعاني من تعثر في أدائها الاقتصادي وتواجه أزمات تتناسل من بعضها، فضلاً عن عدم قدرتها على تحقيق نمو اقتصادي متوازٍ مع متطلبات التنمية وإيجاد فرص العمل. لكن هل دول مجلس التعاون بمنأى عن أزمات مشابهة أو مختلفة عما تمر به عديد من دول العالم؟ بسبب غياب الاستراتيجيات وعدم الإفصاح وتسلل الفساد المالي والإداري وغياب مبدأ المحاسبة، بدأت في التشكل الأزمات المعيشية في دول المجلس منذ منتصف سبعينات القرن الماضي مثل أزمة السكن والبطالة والأجور المتدنية واستمرت عملية التراكم تفعل فعلتها حتى الوقت الحاضر الذي تشكلت فيه فوارق كبرى في المداخيل وتراجعت نسبة الطبقة الوسطى داخل كل مجتمع وكذلك بين دولة وأخرى من دول المجلس الست، حيث تتبوأ قطر المركز الأول على المستوى العالمي في دخل الفرد بنحو 90 ألف دولار وتأتي بعدها الإمارات بمسافة وبمعدل دخل فردي يبلغ نحو 50 ألف دولار ثم الكويت برقم قريب. لكن ذلك لا يلغي وجود أزمات مستفحلة كأزمتي البطالة والسكن، فلم يعد المواطن الخليجي قادراً على شراء بيت العمر بسبب ارتفاع أسعار العقار إلى مستويات لا تصلها أيادي أبناء الطبقة الوسطى، وكذا الحال في أزمة البطالة، حيث تشير التقديرات إلى زيادة نسبتها بشكل سنوي يزيد من القلق على المستقبل. ففي دراسة أصدرتها مؤسسة الخليج للاستثمار، حذرت فيها من تفاقم نسبة البطالة بين الشباب في الفئة العمرية ما بين 19 إلى 25 سنة، قالت إنها تصل إلى 30% في السعودية و28% في البحرين و23 في عمان و24 في الإمارات و12% في الكويت. هذه الأرقام وهذه النسب تؤكد أن ميزان العدالة الاجتماعية يعاني من خلل جوهري تفصح عنه العلاقة العكسية بين الثروة الفلكية (بلغ فائض موازنات دول مجلس التعاون الخليجي في العام الماضي 222 مليار دولار) وبين الأزمات المتزايدة التي تؤكد هذا الخلل، ما يفرض ضرورة تصحيح الخلل ومعالجته بخطط وبرامج قادرة على امتصاص الأعداد الهائلة من الواقفين في طوابير الإسكان والبطالة والتطبيب والتعليم القادر على مواجهة متطلبات العصر. ففي معالجة هذه الأزمات استقرار اجتماعي وسلم أهلي، وهذه لا تأتي إلا إذا طُبقت العدالة الاجتماعية بمفهومها الواسع القائم على إشراك المواطن في القرار السياسي والاقتصادي وتجسيد المساواة بين الجميع على أرض الواقع.