الاتهامات الموجهة لدوريتي هيئة الأمر بالمعروف بالتسبب في مقتل شاب والموت الدماغي لأخيه والمعضّدة بشهادات الشهود ومقاطع اليوتيوب، بعد مطاردتهما وصدمهما حتى سقطت سيارتهما من فوق الجسر، أعادت، وبزخم غير مسبوق ألبتة، الحياة للجدل المجتمعي المندلع تارة والساكن تارات لموضوع هذا الجهاز وصلاحياته. بالطبع ليست المرة الأولى التي تثار فيها مسألة المطاردة حتى الموت من قبل دورية للهيئة. حدثت مطاردة في عرعر سنة 2006 نتج عنها وفاة فتاة وتعرض شاب لجروح بليغة، ومطاردة في تبوك سنة 2008 نتج عنها وفاة شاب وفتاة حرقاً تحت شاحنة، ومطاردة في المدينةالمنورة في نفس السنة نتج عنها إزهاق أربع أنفس «شابان وفتاتان» ومطاردة في بلجرشي العام الماضي لعائلة نتج عنها وفاة الأب وبتر يد الأم وجروح للطفلين. هذه النمطية المتكررة توجب الكتابة عن كوارث الهيئة هذه. لكن الغريب أني وبعد ثلاثة أيام من التفكير المتواصل في الموضوع وجدتني أمام قائمة طويلة من المداخل لتناول نفس القضية، أي أخطاء الهيئة. فقد عنَّ لي في البداية أن أكتب مستخدماً طريقتي الأثيرة في رصد المزاج الاجتماعي، أي تحليل ردود قراء صحيفة ما. في هذا السياق، فكرت أن أجمع ردود فعل القراء على حادثتي مطاردة حتى الموت تكون الهيئة طرفاً فيهما وتكونان حدثتا في زمنين مختلفين لرصد التغيرات أو الثبات في المزاج الشعبي حيال جهاز الهيئة. وبالفعل، جهزت خبرين من نفس المصدر، أي جريدة الرياض. والاعتماد على مصدر واحد للخبرين الذي يفصل بينهما خمس سنوات من أجل تحييد عامل فئة القراء، أي التركيز على التغيرات في المزاج الشعبي حيال الهيئة لدى قراء جريدة واحدة. الخبر الأول كان عن حادثة المطاردة حتى الموت للسيارة التي تقل أربعة أشخاص في المدينة والواردة في عدد جريدة الرياض ليوم 1429/3/24 ه. كان هناك 674 تعليقاً للقراء. والثاني كان عن الحادثة الأخيرة، كما نشر في نفس الجريدة يوم الأربعاء الماضي، الذي حمل حتى كتابة هذا المقال 274 تعليقاً. يمكن تبين تغير في المزاج الشعبي في غير صالح الهيئة. فبرغم استمرار تعبير الفئة المقاومة لمحاسبة هذا الجهاز عن أخطائه، إلا أني لاحظت وضوحاً أكبر في رؤية المعارضين لهذا الجهاز ونقمة أكبر مما كانت قبل خمس سنوات. النتيجة أعلاه تصلح مدخلاً لوحده. بيد أنه طرأ علي مداخل أخرى. مثلاً، مواقف منزهي جهاز الهيئة عن الأخطاء والرافضين لمحاسبة مخطئيه ممن ينتقد هذا الجهاز. ولاحظت فعلاً مقداراً كبيراً من عدم الاتساق في مواقف هذه الهيئة. فقد حللت تغريدات بعض من يوجهون التهم بالتغريب والعلمنة وتقصد الشر بالمجتمع لمن يطالب بمحاسبة هذا الجهاز فوجدتهم في الأغلب الأعم يوجهون تحايا الإكبار والإجلال وإضفاء البطولات لمن ينتقد الشرطة والمرور والجوازات والسجون والصحة والتعليم والعمل والإسكان. لكن حين ينتقد الكاتب جهاز الهيئة ينقلب عليه هذا النفر من القراء والمغردين ويحولونه لعدو للمجتمع يتربص به الشر ومدفوع بأجندة خفية شريرة تتقصد عقيدة المجتمع وأمنه ورخاءه! هذه مصيبة أخلاقية كبيرة. فإما أن يكون منهج الفرد ضد النقد العلني أو معه، لا أن يكون معه حين نقد المؤسسات الحكومية غير الدينية وضده حين نقد المؤسسات الحكومية ذات الصفة الدينية. ويلتصق بهذا الخطاب السؤال الشهير الذي يخرجه «جمهور» الهيئة من الجعبة باعتباره السؤال المبطل لمصداقية من يطالبون بمحاسبة الهيئة، الذي يمكن التعبير عنه بالجملة التالية: أين أنتم من…. لماذا لا تتكلمون عنهم. والمتروك نقطا في هذا السؤال إما أن يكون حادثة قتل لسائق بعد مطاردة من قبل الدوريات أو المرور أو سلوك لأجهزة أمنية أخرى. وتتغافل هذه الحجة المصنوعة من أجل إبطال شرعية المطالبة بمحاسبة الهيئة، مثلها مثل أي جهاز حكومي آخر، تتغافل عن الحقيقتين التاليتين: -1 إن العسكر الذين يتسببون في مقتل الناس، عبر مطاردة ما أو خلافه، ليسوا مثل أفراد الهيئة فوق المحاسبة، بل يخضعون للمحاسبة والمحاكمة والعقاب. ولقد قرأت تحقيقاً في جريدة عكاظ قبل بضع سنوات عن العسكر المسجونين في صفحة كاملة. وأذكر أن اثنين من الذين قابلتهم الجريدة كانوا عساكر مدانين في مطاردات حتى الموت لسائقي سيارات. حقق في قضاياهم وقدموا للمحاكمة وأدينوا وصدرت بحقهم الأحكام وكانت، وقت التحقيق، تطبق عليهم. لو أن أفراد الهيئة يحاسبون على أخطائهم مثلما يحاسب أفراد الشرطة والمرور وغيرهما من الأجهزة الأمنية لما اشتعل الغضب في الناس. لكن الحاصل فعلاً هو انعدام حالة إدانة واحدة في حادثة قتل وجهت لأي فرد من أفراد الهيئة. هذا سبب للغضب من هذا الجهاز والحنق عليه. -2 إن جهاز الشرطة أو المرور أو غيرهما حين يتورط فرد من أفرادهما في التسبب بموت فرد، أو عدة أفراد، فإنك تجد الجمهور موحداً ضد هذا الخطأ ويطالب بمحاسبة المخطئ. لا تجد أحداً في هذه الحالات ينزه الشرطة أو المرور عن الأخطاء أو يشكك بنيات من يطالب بمحاكمة المخطئ ومحاسبته. لو وجد هذا العامل، أي تنزيه الجهاز فوق المحاسبة، لوجد في المقابل غضب الناس من هذا الجهاز وحنقه. إن من يصنع الغضب، الذي يصل لحد المطالبة بإلغاء الجهاز، ليس خطأ الأفراد، بل إنكار الخطأ ورفض المحاسبة عليه. قريب من هذا السياق، وهو ما ينفع مدخلاً لوحده، هو الأساليب التي يتبعها هذا الجمهور في إخراجها من كل حادثة من الحوادث المذكورة أعلاه، ومن غيرها من أخطاء هي أقل من القتل، كالتعدي بالضرب واقتحام البيوت وصدم السيارات وخلافه، فوجدتهم يتبعون منهجية متشابهة في محاولة إخراج جهازهم هذا من كل مصيبة يتورط بها كالشعرة من العجينة. الثابت في هذه المنهجية تكتيكان عريقان هما: -1 تشويه الضحية: يعمد هذا التكتيك إلى حصر النقاش في أخطاء الضحايا. قد يكون السلوك المراد التركيز عليه واضحاً، مثل خلوة شاب بفتاة «مثلما هو الحال في حوادث عرعروتبوكوالمدينة» أو هروب السائق وعدم توقفه «مثل حادثة بلجرشي». وحين يعوز الجمهور وضوح الخطأ، يُضاف خطأ مُدّعى، بل وقد تثبت التحقيقات أنه مجرد بهتان، مثل الادعاء بأن المُطاردين كانوا سكارى، كما هو الحال في الحادث الأخير. أو القول بأنهم قطعوا إشارة المرور وتسببوا في الحادث لأنفسهم. -2 التضحية بآخرين مقابل إنقاذ سمعة الهيئة: في حادثة بلجرشي مثلا، التي طورد فيها القتيل من قبل دوريتي هيئة وشرطة، يتم التركيز على خطأ دورية الشرطة وتبرئة دورية الهيئة من المطاردة، فيقال إن دورية الهيئة توقفت عن المطاردة فيما استمرت دورية الشرطة في المطاردة حتى القتل. وبناء عليه، فإن الخطأ يقع على دورية الشرطة لا على دورية الهيئة. أيضا، في الحادث الأخير، قدمت رواية تتهم سائق سيارة ليموزين بصدم سيارة الضحايا وإسقاطهم من فوق الجسر. تم اللجوء لهذا التكتيك بعدما تطور دور وسائل الإعلام في تغطية هذه الحوادث، بعد صمت قبوري لسنوات، وتقديم الحقائق، وأيضا بعد تقدم وسائل الاتصال الجماهيري التي أضحت تلعب دوراً أكبر حيوية من الإعلام التقليدي في تقديم صورة أقرب للحقيقة. نظراً لأن إخفاء التفاصيل، ومعها الحقيقة، أضحى صعباً، يتم إذاً التلاعب بالحقائق ومعالجتها بشكل نفعي يخدم هدف تبرئة الهيئة. -3 تشويه سمعة الشهود والتشكيك بهم: تؤخذ تفاصيل الحادث في أكثر من حادثة من الحوادث المذكورة في بداية المقال من شهود عايشوا لحظته، فيقال عنهم إنهم كانوا مخمورين أو متحاملين أو مدفوعا لهم من أجل تشويه سمعة الهيئة… إلخ. كما هو واضح، تتعدد المداخل. إنها لا تقتصر على ما ذكرته أعلاه، بل هناك بقية. فخطاب الهيئة وكيفيات تناوله، أخطاء أفراده يصلح مدخلاً لوحده، وهو ما قد أمر عليه سريعاً في مقالي القادم. بيد أني اخترت مدخلاً سيكون موضوع مقال كامل. ذاك هو طرح سؤال حول أسباب فشل إصلاح هذا الجهاز وتأطير سلوك منسوبيه بالمحددات التنظيمية الراسمة لحدود تحركاتهم وسط الناس. لدي كثير مما أقوله في هذا السياق، وسأخصص مقالي القادم له.