حين أُنوي الكتابةَ عن وزارةِ التعليمِ العالي فإنه يضيق صدري ويخفق قلبي وينعقد لساني، فمن ناحيةٍ أُشعرُ أن الكتابةَ أحياناً تصيرُ نوعاً من الهذيان، أو هي أشبه ما تكون بالكتابةِ على الماء، وهل أعبث من الكتابةِ على الماء؟!، ومن ناحيةٍ أخرى فقد سبق أن كتبتُ عنها مقالين ذهبا كصرخةٍ في وادٍ أو نفخٍ في رماد، غير أن الفرقَ بين ما كتبتُ وما سوف أكتبُ هو أنَّ المقالين السابقين كانا موجهين في الأساس إلى وزارةِ التعليمِ العالي، ولا أعرفُ هل درى المسؤولون بهما، أم أنَّ لديهم من الأولويات ما هو أهمُّ من شكاوى الناسِ وكلامِ الجرائد!، أمَّا هذا المقالُ وما سيتبعُه في هذا الشأنِ فسيكونُ مُوجَّهاً إلى الذين بأيديهم محاسبة المسؤولين في تلك الوزارة، مؤملاً معرفةَ أسبابِ التجاهلِ التامِّ لمطالباتِ المواطنين، وعدمَ إجابتها على أسئلةِ الكتابِ والصحفيين السهلةِ جداً جداً، التي ما دعت إلا إلى معرفةِ المعاييرِ المعتمَدةِ في توزيعِ الجامعات، خصوصاً أنَّ هناك نداءً من الأميرِ نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله- موجَهاً إلى الجهاتِ الحكوميةِ بضرورةِ الردِ فوراً على كُلِ ما يكتَبُ عنها في وسائلِ الإعلامِ، مبيِّناً أن السكوتَ من قِبَلِها يعني إقراراً بما تم نشره وتأكيداً له. فإذا لم يحترم المسؤولون الكبارُ ما يصلهُم من توجيهاتٍ، فلا لوم إذن على الآخرين إذا فعلوا الشيءَ نفسَه!، كما أطالِبُ بالتحقيقِ لمعرفةِ الأسبابِ الداعيةِ إلى إسقاطِ عددٍ من المحافظات، وتقديمِ غيرها عليها، كما لو أنَّ أهلها مواطنون من الدرجةِ الثانيةِ، أو لكأنَّ المجتمعَ في نظرِ بعضِهم مقسمٌ إلى نبلاءَ وغيرِ نبلاء!، إلى درجةِ أنَّ الناسَ اتهموا الوزارةَ بالعنصريةِ المناطقيةِ، ومحاباةِ ناسٍ على ناس، والواقعُ أنَّي بالقدرِ الذي أستبعدُ فيه ذلك وغيره من التهمِ التي لا سبيلَ إلى ذكرِها، وأبحثُ عمَّا أبررُ به تلك الأخطاء، فإنِّي لا ألومُ الناسَ على قولِ ذلك، أو حتى فيما لو طالبوا بإقالةِ الوزيرِ، فإنَّ من يضع نفسَه في موطنِ الشُبهاتِ فلا يلومنَّ إلا نفسَه، كما أنَّ الوزيرَ يجبُ أن يكونَ في خدمةِ كُلِ الناسِ لا فئةً قليلةً من الناس، والوزارةُ حين تعملُ دون الاعتمادِ على خُططٍ ودراساتٍ وأرقام، فإنَّها تُفسِدُ كلَ شيء، ولا يجبُ أن يُعتقَدَ أني أتحدثُ عن الأشياءِ الماديةِ فحسب، بل أعني الأشياءَ المعنويةَ أيضاً، فلو كانت الوزارةُ خاليةً من كلِ عيبٍ عدا هذا العيبِ، لكان كافياً لإحداثِ غربلةٍ شاملةٍ في إدارتِها، أقلُّها إقالةُ معالي الوزيرِ!، فقد عُلِّمنَّا أنَّ الوطنَ فوق الجميعِ، وأنَّ القانونَ لا يحابي أحداً «كائناً من كان»، فباللّه عليكم؛ بماذا تفسِّرون غيابَ المعاييرِ المعتمَدةِ في توزيعِ الجامعات، ولماذا تُسقَط مدنٌ هي الأَولى من حيث الموقع والمساحة وعدد السكانِ؟!، فعلى أيِّ أساسٍ تُفتتَحُ جامعةٌ في مدينةٍ «ما» بينما تهُمَلُ مدينةٌ بحجمِ محافظةِ حفرِ الباطن، لعلَّ عددَ سكانِ تلك المدينةِ لا يعدلُ أن يكونَ حياً من أحيائها، فحسبك أن تعرفَ أن تلك المدينةَ جزءٌ من خمسةِ أجزاء من تلك المحافظةِ!، حتى أنَّ هذه الجامعةَ تُقيمُ بعضَ برامجها هناك مستفيدةً من كثافةِ أبناء المحافظةِ!، ولو افترضنا أنَّ هذه المدينةَ جزءٌ من تلك المحافظةِ فإن الرياضيات ستقفُ عاجزةً عن تفسيرِ ذلك، ولا أدري كيف يمكننُا بعد الآن إقناعُ أبنائنا أنَّ الكلَّ أكبرُ من الجزء، وهم يشاهدون أن الجزءَ يلتهمُ الكلَّ!، فليس أمامنا إلا أن نصِّرَ على هذه المعلومةِ ونتحملَ نتيجتَها بإخراجِ جيل ٍمن الأبناءِ المنفصلين عن الواقع، وإمَّا أن نُزوِّرَ الرياضيات لنقنعَ أبناءنا أنَّ الجزءَ صار أكبرُ من الكلِّ، من بابِ أن الضروراتِ تبيحُ المحظوراتِ!. المشكلةُ في نظري آتيةٌ من الفارقِ الكبيرِ بين وعيِّ المواطنِ ووعيِّ المسؤولِ، فحين يتقدم الأولُ على الثاني يصير الأمرُ كارثياً، فبعضُ المسؤولين ما زالوا يعيشون في عصرِ الشرهاتِ والمكرماتِ والمعاريضِ والبشوت، في حين أنَّ المواطنَ في هذا العصرِ ينظرُ إلى الحكومة على أنها خادمةٌ للشعبِ والمسؤولُ أجيره، ولعلَّ هذا ما عناه الملكُ -حفظه الله- بقوله: «ما أنا إلا خادمٌ للشعبِ السعودي وأقل من خادم»، لكنَّ ذلك لم يبلغ بعضَهم مع الأسف الشديدِ!، ولا شيء أنفع لردمِ هذه الهُوَّةِ من الإتيانِ بقياداتِ شابةِ من الوزراء، راجياً من اللهِ أن يكونَ لوزارةِ التعليمِ العالي منها أوفرَ الحظِ والنصيب.