في أحد البرامج الحوارية اُستضيف متخصص نخبوي في أحد المجالات، وكان مما ذكر أن مُمثلاً زاره مع فريق مسلسلٍ ما، وطلبوا منه أن يكتب لهم فكرة في تخصصه لتمثيلها في حلقة كاملة، وقد لقيت تلك الحلقة أصداء واسعة، ولو أن المتخصص كتب الفكرة في مقالة علمية رصينة لما تجاوزت عشرات القراء، بينما شاهد تلك الحلقة الملايين، والسبب في ذلك أن التمثيل نوع من الفن، ومعروف أن الفن يتجاوز قضبان النفس ليلج إلى عمقها ويهزها، محدثاً تأثيراً قد يكون سلبياً أو إيجابياً. منذ القِدم والفن يُعرّف على أنه «المهارة» في الأداء، فيقال فن الإدارة وفن التعامل وغيرها، كما ارتبط بالجمال والجاذبية، فكما يقول إيمانويل كانط «الفن ليس إظهار الشيء الجميل، بل إنه طريقة جمالية في إظهار الشيء»، وكان أرسطو يقسم المعارف البشرية إلى معارف نظرية وعلمية وفنية. إنه الأداة الأقوى والأعمق في نقل الأفكار، ففي فرنسا اجتمع 160 فيلسوفاً وكتبوا الموسوعة الفلسفية الضخمة، ومع أن معدل القراءة لدى الشعوب الأوروبية مرتفع، إلا أنهم لم يستفيدوا كثيراً منها إلا حين قام أحد الفنانين بنقل بعض ما فيها إلى عموم الناس عبر قوالب فنية، حيث قال «صحيح أن كل هؤلاء الفلاسفة كتبوا هذه الموسوعة الفلسفية، لكن أنا وحدي الذي حولتها لحديث المقاهي وكلام الشارع». يقول منير موتا «الفنان يهتم بالإثارات الحسية لجواهر الأشياء ومتع الشكل الظاهرة، ومغريات الصليل الوجداني، أما الفيلسوف فمشغول بالنظر غير العاطفي في الموضوعات التي تترابط فيما بينها على أساس منطقي كما يهتم بالأفكار العامة، ومن ثم المجردة، والفنان من ناحية أخرى معني بوجه الجمال، كما أن الفيلسوف يعنى بتشريح الحقيقة، وهما بعد ذلك مختلفان من حيث ما يستخدمانه من ذخيرة لفظية ومن وسائل فنية في التعبير، كما أنهما مختلفان فيما يتعلق بأهداف كل منهما، على أن ثمة نقطة يتلاقى عندها الفنان والفيلسوف، ألا وهي أن كلا منهما يستخدم الكلمات». لقد ارتبط مفهوم الفن لدى الكثير بالغناء الماجن والمسلسلات الهابطة، حيث يتم من خلالها تسويق الأفكار المنحطّة، وبذلك تم تشويه هذا المجال الذي كان بالإمكان استثماره لنهضة الأمة، فالفن الهادف الراقي هو الذي ينشر معاني الذوق والفضيلة وأفكار التطور والارتقاء والنهضة، من خلال المسلسل والمسرحية والرسم والإنشاد والقصة والرواية والشعر وغيرها، بل حتى من خلال التصميمات الفنية، حيث تعددت برامج الجرافيكس وتنوعت خيارتها، لكن -مع الأسف- قل من يستثمر ذلك ويجعله مشروعاً له في بناء الوعي وتهذيب السلوك لدى المجتمع. فمنذ القدم كانت قيم الحق والخير والجمال قيماً إنسانية لكل الشعوب، وتقابلها ثلاثة أنواع رئيسية من النشاط الإنساني، وهي العلم والأخلاق والفن، فبالفن تتكامل الشخصية وترتقي النفس، فهو يُهيِّج المشاعر ويستثير الأحاسيس من خلال الصورة أو الصوت أو كليهما، فيندفع العقل نحو الاستجابة، من خلال الشحنات الوجدانية، كما أنه النافذة التي يُطل منها المرء على الحياة ومكنوناتها.