الفتاة التي تلاحق الموضة لن يسعفها الزمن. صرعات الجسد تسبق دائماً، إذ لا رابح في مارثون الشكل الجديد.. والفتاة مثل سيزيف الذي يحاول عبثاً الاعتلاء بصخرته على قمة الجبل، منهكة بأعباء لعنة الجسد، وكل همها الاكتمال المستحيل لنجومية هاربة. ومع أن الأنثى، فاتنة «البوتوكس» ليست مجرد «موديل» أو مساحة لحفلة الألوان وتناسق الحقيبة الثقيلة والحذاء مع الزي والمساحيق، إلا أن جسدها المزوَّد بكل إمكانات الفُرجة والعرض يبدو كما لو كان محدداً يتيماً لهويتها. جسدها دلالة مكثفة. «الجسد حقيبة سفر» وهو عنوان من بين عناوين عديدة اقترحتها الأديبة السورية، غادة السمان لسرديتها في معاينة الأجساد الأنثوية، وقضايا المرأة والحرية والوطن وأشياء أخرى ليست من ابتداع الذات المؤنثة، ولاهي من صنعها، تماماً مثل المدخل الذي نسجته بريشة سواها «مقدمة بقلم سواي» وعلى ذلك، فالمكون الرئيس لهويتها هو كذلك مصادر ومعرَّض دائماً للسطو، حيث إن جسد الأنثى، مع غادة السمان، ليس أكثر من سردية كبرى لنص ليست هي من كتبه. الأنوثة منذورة دائماً لشكلانيتها ولرهانها الخاسر في الركض العبثي. الشكل سورها اللامرئي ولعنتها الصامتة، واهم من يحيل السفور إلى نقيض للعباءة. التقابل خادع بين الجسد السافر، الجسد المعروض للفرجة، والجسد المستتر، الجسد الذي يخفي لكي يعد، ويؤسس ذاته كدعوة. وإذا كان الجسد المحجوب يرخي العباءة لكي يظهر ملامحه المؤكدة في لعبة الظهور والاحتجاب، فإن الجسد المعدل والخاضع لعمليات «البوتوكس» ينغمس أكثر في ذات اللعبة: يخفي ملامح ليستبدلها بأخرى، في محاولة مستميتة للتأسي بالنجومية المؤنثة، نجومية نانسي عجرم، وهيفاء وهبي، وممثلات الدراما الخليجية. إنهن فاتنات البوتوكس المرتعبات من شبح التجاعيد، والمهددات دائماً بالسمنة والشفاه الضامرة: «متى تستقر نانسي عجرم على آخر أنف كي نستقر معها!» تقول إحدى المعجبات. ليست هذه الفتاة وحدها من يستدر الشفقة، ففي مسرح الأجساد المقولبة والمعدلة باستمرار يفتك جنون الشكلانية بفاتنات البوتوكس. إنه انخداع إضافي لتصورات عصرية خادعة هي الأخرى. وكما هو شأن كل شيء في الثقافة الشكلانية، تختزل المعاصرة والحداثة، في أنف معدَّل ووجنات محشوة بالبوتوكس، وكل ذلك لغرض واحد فقط: إرضاء المركزية الذكورية للرجل الذي لا يعيبه شيء، كما يقال دائماً لتأكيد حقيقته الروحية والمتسامية. الهدف دائماً هو الذكر القابع في مركز الهيمنة الذي يؤسس سلسلة من التقابلات بين ذكر وأنثى، طبيعة وثقافة، روح وجسد، فاعل ومنفعل، خاضع ومهيمن. تغيب في الثقافة الشكلانية، ذات الأنثى ليحضر فيها الجسد المروض ذكورياً. الأنثى الفاعلة، التي هي نجم، مصطبغة دائماً بقالب رمزي شيده الذكر المهيمن، الذي أنتج الذوق والمعايير الجمالية التي نحتها على هيئة تمثال إغريقي. الرجل هو الفنان الفحل الذي له وحده الحق في كتابة التاريخ والقصيدة واللوحة الأيروتيكية، أما الأنثى/ النجم/ صاحبة القوام الجميل، فليست شيئاً آخر غير جسد نسوي منذور للتقييم: عليه أن يتماهى كليا بأمثولة وضعها الرجل/ الفنان/ الفيلسوف وخبير عمليات التجميل، لذلك كانت الأنثى في الخطاب الفلسفي منذ أرسطو ليست أكثر من مادة تجد نفسها منشدة للمثال أو الصورة، أي الجسد في صورته المثلى: جسد البوتوكس. وإذاً فالأنثى قيمة فحولية، أو حيز لاستعراض القيم الذكورية. وعلى غرار الالتذاذ المازوشي، تنجر النجومية المؤنثة لترسيخ اغترابها واستلابها التاريخي، عبر تبني الخطاب الذكوري، وتأكيد وضعية الخاضع والمنفعل والسالب في علاقة الهيمنة مع الرجل.. ، عمليات التجميل تأكيد للمصادرة الذكورية التي تمرر ذاتها بخفة ودهاء. «الذكروة والأنوثة» إذاً بنية مستقرة ضمن توليدات لا نهائية لعلاقة الهيمنة بين ذات وموضوع، بين فنان وموديل للعرض. لقد شاء الخبير وصاحب العمل الاقتصادي لدر الأرباح – وهذا أمر طبيعي!- أن يحيل الأنوثة إلى أيقونة أو فضاء لاستعراض آخر الماركات. فالجسد الأنثوي جسد معروض، يلهث دائماً وراء التشبه بالجسد / الأيقونة، الجسد الموديل، الجسد الفعلي المتعطش إلى مثاليته، والمنفعل أبدا في لعبة التقابل بين «الجسد من أجل الآخرين والجسد من أجل الذات». وهو أيضا الجسد الخائف والمرتعب والمريض بعقدة الجمال و«عدم الأمان الجسدي». في هذا الركض الأبدي للفتاة المسكينة المتأسية بفاتنات البوتوكس ونجمات النيولوك وآخر صرعات الستايل، ثمة تجسيد آخر لعلاقة الهيمنة، فالجسد الخائف والمنسحب وبما يحمل من دلالات النحافة والتناسق الإغريقي والتموجات المنضبطة والمحددة بدقة الفنان الرومانسي، يستحضر على الفور وبشكل مفارق صورة «الجسد المصارع»، الجسد الشجاع والجسور الذي يستعيد رمزياً الاحتكار التاريخي لسلطة الأب، الذي هو بطبيعة الحال الرجل البدائي قوي البنية والرياضي الرابح و البطل «السبارطي» الذي يفوز دائماً في لعبة كمال الأجسام. وفي حين تبدو المصارعة لعبة بائدة أو ذكريات مسلية للرجل المهذب والمصقول بثقافته، تبدو المرأة وكأنها نتاج أزلي لقوة متعالية على التاريخ.. نص لايكتب ذاته، أو خضوع لهيمنة، توحي لها خطأً بأنها هي التي تهيمن. مما يعزز قدرة النسق على التخفي والافتراس الناعم لنظرة الرجل.. الرجل يصبح ذاته، أما المرأة فتصير أنثى تحت نظرته الذكورية، النظرة التي تدعوها للقول بغنج: «كلما عوملت أكثر كامرأة، أصبح امرأة أكثر».