كما أنه ينتظر من السياسي أن يكون فعله إيجابياً بأسلوب النضال والمبادرة والصدح بما يعتقد أنه الحق، فإنه يُرجى منه كذلك القيام بالجهاد السلبي الذي يتجلى بالتنازل والتقهقر والتراجع والسكوت عن الحق الأصغر من أجل الحصول على الحق الأكبر، وكذلك الانحناء بحكمة لهبوب العاصفة للوقوف شامخاً من جديد. هذه الأدوار التي يجب أن يكون السياسيون على إلمام بها هي ترجمة لتعريف السياسة الشهير بأنها هي فن الممكن، وليس فن التصلب والتزمت. وبما أن لكل شيء زماناً مناسباً، فأحياناً يكون الكلام من ذهب وفي أحيان أخرى يكون ضده أي السكوت هو الذي من ذهب. والحكمة والحنكة وبعد النظر في الأشياء والمواقف والاستفادة من دروس التاريخ، هي التي تحدد الوقت المناسب الذي يجب أن يتحلى به ويراعيه السياسيون. ولو طبقنا هذا الكلام النظري العام على الواقع السياسي في مصر، فيا ترى إلى أي مدى نجد أن الأطراف العاملة في السياسة هناك لديها هذا الحس العالي من الحكمة في تناول الأحداث السياسية الحساسة والجوهرية التي تمر بها البلاد منذ ثورة يونيو 2011م، وخصوصاً الفترة الراهنة التي تلت عزل مرسي في الثلاثين من يونيو الماضي؟ ليس الهدف من هذا السؤال هو التشكيك في وجود عناصر وطنية وحكيمة في مصر قادرة على إخراجها من هذا المأزق. بالتأكيد لا، وإنما الهدف من هذا السؤال هو التنبيه والتحذير أن مصر قد احتشدت في ثنائية متضادة ومتناقضة في الرؤية إلى درجة كبيرة قد تؤدي إلى مزلق الحرب الأهلية في أسوأ الظروف أو الدخول في مرحلة كبيرة من التصارع المادي والمعنوي وعلى نطاق واسع ولفترة طويلة. وفي النهاية لا يوجد رابح حقيقي وإنما سيخسر الجميع كمواطنين. وسيقوم الطرفان الكبيران أي من هو مع عودة الرئيس مرسي المخلوع ومن هو ضده بإدخال البلاد جميعها في دوامة ردود الأفعال اللحظية. وبالتالي يتم فك الارتباط المنهجي المهم بعدم جعل كل التحركات السياسية لكل الأحزاب تتجه نحو تحقيق الهدف الأكبر وهو استقرار مصر تحت منظومة ديمقراطية ومدنية للجميع. كانت حملة الجيش في عزل الرئيس مرسي ساحقة بكل ما تعنيه الكلمة. إذ تم عزل الرئيس واعتقال رؤوس الإخوان وتم إغلاق القنوات المتعاطفة معهم في فترة وجيزة. واستطاعوا تحقيق بعض التأييد الدولي المهم إقليمياً ودولياً لما حصل. لكن بغض النظر عن صحة ما حصل من عدمه، فهذا لا يهم حقيقة الآن. فالإخوان مع العقود الطويلة في العمل السياسي والاجتماعي باتوا عنصراً ثابتاً في المجتمع المصري. وبالتالي يصعب تجاهلهم في أي عملية تسوية أو مصالحة مقبلة. قد يكون هذا الكلام مؤسفا للبعض لأنهم يرون في سلوك الإخوان ثعلبة وتقية مبطنة ستظهر الأيام مدى مكرهم عندما يتمكنون فيقومون بقلب ظهر المجن ليس على خصومهم فقط بل وعلى المجتمع المصري بأسره وعلى دول المنطقة. فكل ما ينقص الإرهاب السني السلفي كالقاعدة وغيرها، هو وجود دولة راعية لهم كما ترعى إيران جماعات الإرهاب الشيعية في المنطقة. وفي المقابل، قد يقول قائل إن الإخوان حكموا سنة ولم يظهر منهم ذلك، بل احترموا قواعد اللعبة الديمقراطية. لكن يرد خصومهم بقوة أنهم لم يتمكنوا ولم يمكنوا، من القفز على ظهر الدولة وتكبيل مفاصلها، كما قفزوا على قطار ثورة يناير، وإلا لجعلوا مناصب الدولة العليا إخوانية لحماً ودماً. في اعتقادي الشخصي، إن ما يضع النقاط على الحروف فيما قام به الفريق السيسي ضد الرئيس مرسي، هو ضمان استمرار الجيش في تماسكه وتوحده خلف قرار قائده في اقتحام الحلبة السياسية. وهنا أكرر بغض النظر عن مسوغات كل طرف سواء من هو مع مرسي أو ضده. وهذا يقودني إلى التساؤل لماذا الجيش مهم هنا ؟ مهم لأن المؤسسة العسكرية هي الرافد الرئيس للبوابة السياسية التي دلف منها كل حكام مصر بعد سقوط الملكية. وبالتالي فإنه لم يكن من السهل على قادة الجيش الاكتفاء بدورهم العسكري دون السياسي. لذلك كان من الملاحظ أن الرئيس السابق تحدث عنهم بكثير من التقدير من أجل تأليف قلوبهم حوله على ما يبدو. إن ما أنجح ثورة يناير هو ميل الجيش مع الثورة ضد حكم مبارك. وما كان يسعى لأن ينجح فيه مرسي طوال حكمه هو إعادة الجيش إلى ثكناتهم وكف يدهم عن التدخل في السياسة. لكنه دخل السياسة مرة أخرى، ونجح في إزاحة مرسي. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يستطيع الجيش أن يحافظ على توحده خلف قائده أم أنه هو الآخر سيكون صورة للانقسام الشعبي؟ أي بادرة للانقسام في الجيش المصري هي خطوة خطيرة. لأن هذا سيعني الانتقال من الخلاف المشوب ببعض القتل والعنف المتقطع إلى الاقتتال الشعبي والطويل. وسيفتح الباب على مصراعيه لسيناريوهات مخيفة. أقلها تحويل مصر إلى مستنقع يجذب له الخلايا الإرهابية. في بداية المقال تحدثت عن أن السياسة ليست هي إقدام ومبادرات بل تحتاج أحياناً كثيرة للتضحيات والتنازلات. فعلى الجيش المصري أن يسعى إلى تحقيق هدفه الأسمى وهو الحفاظ على وحدة البلاد وضمان الأمن بتحقيق تسوية ومصالحة وطنية لا تستثني أحداً لإعادة مصر إلى جادة الاستقرار. فالخوف هو على مصر الدولة وليس الحكومة.