كنت أظن أن التشاؤم صفة لازمة خاصة بأهل بلدنا، أو بالعرب، ثم اكتشفت أن التشاؤم والنزوع نحو الكآبة سمة عالمية تنغص حياة كل البشر في هذا الزمان. فلا تغتروا بما تشاهدونه في التليفزيون، فمعظم ما يقال زيف وكذب وجزء من استعراضات الإعلام. هذا الزمن الذي نعيش فيه –زمن ما بعد الحداثة الذي تسيطر عليه قناعات العقل الغربي وحده– هو زمن يجلس على عرشه الفكر المادي، فكر لا يعترف بعالم الروح. إنه عالم تملؤه الثقة وهو يفسر لك ضحكتك كيميائياً؟! ويسخر ممن يقول: «ضحكت من قلبي». مواطن هذا العالم الجديد الذي أصبح صغيراً جداً ومتشابهاً لدرجة السآمة، هو أيضاً شيء صغير كعالمه، كما أنه مواطن خائف. لعل هذه هي السمة الأولى التي تطغى على كل كيانه: أنه خائف. إنسان متوجس وقلِق من المستقبل، وما ستأتي به الأيام. مصاب بالهلع من عدم معرفته الطريقة التي سيسد بها احتياجاته. بطبيعة الحال إن هذا الإنسان سيكون متشائماً، فالفلسفة المادية قد أسقطت الغيب والروح من حساباتها، وهي لا تعترف –فيما يتعلق بنظرية المعرفة– إلا بمعطيات الحواس. إذن كيف يمكن لهذا البائس أن يتفاءل وهو لا يرى إلا طاحونة الاستهلاك التي يعيش فيها، وفي حياة يعتريها النقص والمرض والحاجة، ثم يذبل ويموت، كورقة سقطت من شجرة ثم سحقتها الأقدام. نعم، قد ترضيه الصحة والشباب واللذة لفترة ما، لكن هذا هو مصيره الحزين في النهاية. لعل ما يبقيه متماسكاً هو أنه يحاول ألا يفكر ولا أن يتذكر. ولعل من الطريف أن أذكر هنا أن د. طه عبدالرحمن يرى أن الإنسان لم يُشتق اسمه من الأنس، بل من النسيان. قرأت قديماً كتاباً لبرتراند راسل اسمه (اكتشاف السعادة)، فرأيته غرق من أول الكتاب لنهايته في مصيدة تحديد وتعديد أسباب التعاسة ولوم النظام السياسي عليها، ثم ختم كتابه بأسطر قليلة يزعم أنها كفيلة بجعل الإنسان سعيداً وأنه قد تشبه في ذلك بالمثاليين. هو هنا يعترف ضمنياً دون أن يشعر بأن المادية (مذهبه) لا تحقق السعادة، وإنما تكتفي بافتخار زائف بأن موقفها هو العلمي. وكذا عاش ومات برتراند راسل كئيباً حزيناً ينضح الأسى من كل كتبه ورسائله (لماذا لست مسيحياً؟)، (لماذا لست شيوعياً؟) إلخ. والعرب تقول: «كل إناء بما فيه ينضح»، فلا يمكنك أن تنزل ببيت بخيل فتتوقع الإكرام، ولا يمكنك أن تتوقع حواراً راقياً من جاهل، ولا يمكنك أن تنتظر نصراً من ضعيف، ولا تبريكاً من حسود. إذا كنت تعاني من مشكلة التشاؤم، فهذه ولا شك مشكلة كبيرة تستحق تفرغاً لاستعراضها ومناقشتها وطرح الحلول الممكنة واختيار ما يمكن تطبيقه مما هو مناسب لحالك. لكن لابد أن تعرف أنه لن يُجدي معك شيء، ولو جمعنا لك كل حكماء الدنيا، ما لم تكن لديك رغبة حقيقية في التغيير. إرادة التغيير ستكون موضوعنا القادم إن شاء الله.