شهر رمضان مناسبة كريمة لإطلاق الأيدي بالصدقة والإحسان إلى الفقراء وفيضان المشاعر واختلاجها بالتعاطف تجاههم، ولذلك اعتاده كثير من الناس لإخراج زكواتهم. لكن السؤال الذي ينبغي أن نستشرفه في المملكة هو في مجاوزة دفع الصدقات بما يشبه التخلص منها، إلى التفكير في الفقر من حيث هو مشكلة تنتُج عن أسباب، وتستفحل في ظروف، وتطوي من المظاهر والوقائع والتبعات أكثر مما تبدي على السطح. ومعنى ذلك أن أموال الصدقات والزكوات حتى وإن كثرت لن تحل مشكلة الفقر، وإن حلت جانباً عاجلاً في شكل غذاء أو علاج أو كساء… الخ.. فسيظل الفقير فقيراً، لأن الأسباب التي تصنع فقره لم يتم اقتلاعها، والظروف التي تفاقم عجزه أقوى من المبالغ التي يتصدق بها عليه، أما من يختفي من الفقراء أو ما يتوارى من أشكال الفقر أو يبتعد عن الملاحظة والتصور فلن يبحث أكثر المتصدقين عنه! هكذا تقوم الحاجة إلى العمل المؤسسي والتنظيمي المعني بمشكلة الفقر، وهو عمل تمثله في المملكة عديد من الجمعيات الخيرية الأهلية بالإضافة إلى إدارات وأجهزة حكومية مكرسة للمشكلة. وقد كانت زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله المشهودة لبيوت الفقراء عام 2002م دلالة مقصودة في معنى البحث عن الفقراء وضرورة اكتشافهم، وكان إنشاء «صندوق معالجة الفقر» في أعقاب هذه الزيارة هو دليل هذا المعنى الذي ينفي انحصار مشكلة الفقر في الحاجة إلى مال بقدر ما ينفي مثول الفقراء أمام العين دائماً. ولهذا بدت المشكلة في حاجة إلى استراتيجية للمعالجة فكانت «الاستراتيجية الوطنية لمعالجة الفقر» تحت مظلة وزارة الشؤون الاجتماعية. وبالطبع فإن المرء لا يتوقع أن يكون القصد من الصندوق أو الاستراتيجية إضافة مؤسسة حكومية خيرية للبر والصدقة إلى جمعيات البر الأهلية المنتشرة، بل اعتماد منهجية في دراسة مشكلة الفقر تفضي إلى التعريف عليه وتحديد خطه في مجتمعنا والاكتشاف العميق له في مظاهره وأسبابه ومواطنه وطرق العلاج له. وهذه مهمة ضخمة لأنها لا تنفصل عن مهمة التنمية والنهوض التي تتشاركها خطط الدولة وأنظمتها في كافة وزاراتها وأجهزتها. وقد نقول إن تحويل اسم الصندوق بعد سنوات من إنشائه إلى «الصندوق الخيري الوطني» وتحويل الاستراتيجية إلى «الاستراتيجية الوطنية للإنماء الاجتماعي» هما دلالة هذا المعنى ولن يغير الاسم من مهمتهما شيئاً، لكن زوال الإشارة الصريحة إلى «الفقر» تفقر تسميتهما من الشعور به والإعلان عنه. إن أكبر مشكلة تواجه الجمعيات الخيرية الأهلية في المملكة هو غياب البحث والتخطيط والتدقيق عنها. فجهد أكثرها ينحصر في تلقي الصدقات والدفع بها لمن وصل إليها العلم عنه من الفقراء. أين الاستثمارات وطلب الأوقاف من المحسنين؟ وهل تتم مراجعة حساباتها وتدقيقها والإعلان عنها؟ وما إسهامها في إقامة مشاريع تجارية وصناعية وسكنية وتعليمية وطبية… الخ؛ لتوظيف الفقراء وإسكانهم وتعليمهم وتطبيبهم ولاستثمار جزء من أموالها؟ إن جود الجمعيات من جود المحسنين، وقد قرأت في تقرير منشور في موقع المديرية العامة للسجون عن خدمات الجمعيات الخيرية لأسر السجناء أن جمعية البر بالرياض تمنح الفرد سنوياً مبلغ 750 ريالاً! هل يليق هذا بما تتمتع به الرياض من نعمة؟!