حينما هيمنت النظرية الليبرالية الاجتماعية على مفهوم المواطنة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح الفرد الأوروبي يتمتع بكامل حقوقه السياسية والقانونية دون تمايز بين فرد وآخر، وبالتالي جميع أفراد المجتمع متساوون في الحقوق والواجبات. لكن هذه النظرية عانت صعوبة كبيرة في مطابقتها للواقع خصوصا فيما يتعلق بالمرأة وموقعها في الحياة العامة، والدليل على ذلك كما تشير ريان فوت إلى ندرة المواقع القيادية التي تهيمن عليها النساء سواء على صعيد السياسة أو الاقتصاد والجامعة أو القضاء والجيش والإعلام. ناهيك عن درجة الاحترام المتدنية التي ينلنها مقارنة بالرجال في الحياة العامة. هذه المشكلة الحقيقة التي أدت إلى التشكيك في الديمقراطية الغربية، وفي حلولها الناجعة لم تكن سوى أزمة المفارقة بين ما تقوله المدونات النظرية عن الحقوق والواجبات من جهة، وبين الواقع العملي والتطبيقي لتلك المدونات. وعلى خلفية هذه الأزمة كانت الحاجة ملحة إلى نقد هذه النظرية ونقد منظورها حول المواطنة في علاقتها بالمرأة تحديدا. وقد كان للمرأة دور كبير في تنشيط وتحريك هذا النقد وتفعيله بصورة كبيرة كما نجد ذلك في الدور الذي نهضت به ما يسمى بالموجة الثانية من كاتبات النظرية النسوية في حقبة الستينيات وما بعدها من القرن المنصرم. حيث قامت هذه الموجة بالمساءلة والجدل حول أبرز المواضيع التي تتعلق بمفهوم المواطنة كالحرية والحقوق المدنية والمساواة الاجتماعية والتمثيل السياسي والتقييم السياسي. لكنها من جهة أخرى لم تسلم بالمقولات التي راجت حينها حول الاضطهاد الذي يطال النساء باعتبارها نظرية عامة عن اضطهاد كل النساء. لقد أخذت منحى الاختلاف وتأملت مصطلح المواطنة وارتابت منه كثيرا وشككت في قدرته على التعبير عن أزمة المرأة كما نجد ذلك مثلا عند كارولين رامازانوجلو وإليزابيث سبيلمان ودنيس ريلي. وبالتالي لم تكن تنظر إلى النظريات الكبرى التي لم تشدد على الاختلافات القائمة بين النساء سوى مجرد شعارات لا تمت إلى الواقع بصلة. وعوضا عن ذلك برزت على يد هذه الموجة جملة من الدراسات تركز فيها على التكوين الأنثوي للمرأة. وهنا تتساءل الكاتبة ريان فوت في كتابها «النسوية والمواطنة» عن دوافع هذا الموقف وتبدلات المنظور في البحث والدراسة تقول «لماذا لم تستخدم الناشطات والمنظرات النسويات مصطلح المواطنة في هذه الفترة؟» وقد عللت ذلك في كون المواطنة لم تكن سوى «مجرد العضوية الرسمية للدولة» التي ترتبط بها حقوق قانونية، بمعنى أن المواطنة في نظر كثير من النسويات» متعلقة بالسلطة والعلاقات السياسية والدولة والقانون وبقضايا الحقوق والمواثيق السياسية وليست متعلقة بالعلاقات بين الجنسين». وعليه فقد كان البحث من خلالها عن جذور الاضطهاد الذي يمس المرأة في الغرب هو بحث بعيد عن واقع الأزمة التي تعيشها. لذلك ذهبن للبحث عن هذه الجذور في مستويات أكثر عمقا كما في الافتراض الذي يركز على قيمة الذكورة والأنوثة منذ القرون القديمة. وعندما تتساءل الكاتبة عن السبب الذي أدى بمنظري المواطنة عدم الالتفات إلى الحاجات التي تعبر عن المرأة وخصوصيتها كانت إجابتها تتوجه إلى أن مفهوم النسوية في منظور هؤلاء يتعلق بالخاص والشخصي والمعين حيث ترتكز فقط على قضايا النشاط الجنسي والعلاقات الشخصية والأطفال والأسرة ومختلف العلاقات بين الجنسين وهي قضايا مهمة ولكن لا علاقة لها بالمواطنة في نظر هؤلاء لأن المواطنة تهتم بالعام والشائع». لاحقا هذا الجدل توسع كثيرا وطال مجمل النظريات التي اهتمت كثيرا بالاجتماع والفلسفة والتاريخ وقضايا الحقوق التي لا تمس المرأة فقط وإنما الحقوق التي تصل بالبيئة والأرض والإنسان الكوني إلى آخره من الاهتمامات التي تنم عن حركية في الفكر وتبصر في القضايا المعاصرة. قد يتبادر إلى أذهان البعض من خلال مفهوم الاضطهاد للنساء في الغرب هو اضطهاد مماثل في الحياة العامة العربية، وعندما تقول إحدى الناقدات إن المرأة في المجتمعات الغربية هي مواطنة من الدرجة الثانية يطمئن كثير منا إلى مثل هذه الوضعية لأنه يشعر أنه حتى المجتمعات الغربية المتطورة تضطهد نساءها فلا لوم علينا ولا عتب نحن مجتمعات العالم الثالث. يسمي بعض الكتاب هذه المسألة نوعا من اللبس الذي يدل على جهل كبير بالمجتمعات الغربية. وأنا أقول ليس كله لبس بل فيه نوع من التوظيف الإيديولوجي للسلطة التي تستثمر مثل هذا الاضطهاد في تكريس الاستبداد السياسي. فعندما تناقش الناشطات النسويات اضطهادها في مجتمعاتها الغربية وتفكك النظريات الليبرالية التي مارست عليها سلطة حجب وإقصاء رغم الحقوق السياسية والمدنية والقانونية التي كفلت حريتها. نجد بالمقابل أنه لا يوجد خطاب نسائي حول تفكيك الاضطهاد الذي يقع على المرأة العربية وما يزيد الطين بلة هو ما نرى من بعض النساء العربيات التي تكرس مثل هذا الاضطهاد عبر موافقتها الصريحة لكل المقولات التي يطلقها من يرون في المرأة سوى فتنة للرجل فقط . لكن لم نكن نعني بكلمة «لا يوجد خطاب نسائي» تلك الجهود الشخصية التي برزت على أيدي بعض النساء اللائي حملن على عواتقهن التصدي للقيود التي وضعت على حياة المرأة في حياتنا العربية، وحاولن في هذا الإطار التحرر منها كهدى عشراوي على سبيل المثال في مصر، هذا إذا اكتفينا بذكر تاريخنا المعاصر. ناهيك بطبيعة الحال بذكر تاريخنا الإسلامي العريق والممتلئ بكثير من هذه الشخصيات. لكننا نميز هنا بين هذه المجهودات على المستوى الشخصي وبين مجهود الخطاب وقدرته وفاعليته على التأثير في عموم المجتمع، وما جرى في الخطاب النسوي الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وعلى طول القرن العشرين هو الدلالة على مدى تحول الجهود الشخصية النسوية إلى ظواهر اجتماعية وفكرية أثرت بصورة أو بأخرى على وضع المرأة الغربية سياسيا وقانونيا واقتصادية واجتماعيا. هنا يكمن الفرق في هذا التحول النوعي في الحياة.