ضمن الممارسات المطبقة في توزيع منح الأراضي السكنية لفئات معينة كالجامعيين والعسكريين وذوي الدخل المحدود وغير ذلك، يحفر الفساد لنفسه طرقا ملتوية للاستفادة من آلية التوزيع التي تكتنفها الضبابية وغياب الشفافية، فنجد أن هناك من يملك مجموعة من هذه المنح المنتشرة في جميع المناطق، بينما هناك من المواطنين من لا يملك قطعة أرض واحدة. كما تتضح صور أخرى للفساد في أجراءات التخطيط الهندسي وترسيم حدود هذه المواقع، وحتى في تطبيق صكوكها الصادرة لملاك لم يعلموا عن وجود هذه الأراضي قبل أن تُمنح لهم وتسمى بأسمائهم شيئا، حيث يتم اقتطاع مسافات من الأراضي الواقعة بين هذه الأراضي الممنوحة، فتتحول بقدرة قادر إلى أراض خاصة يمتلكها فرد أو مجموعة من الأفراد كان لهم دور في الإرشاد إلى موقع الأرض الممنوحة، ورسم وتثبيت حدودها. ومن الأساليب الأخرى التي يلجأ إليها الفساد هو تخليص تجار الأراضي من نفقات تهيئة مخططاتهم بالبنى التحتية، عبر ربطها بمخططات منح المواطنين التي تلتزم الدولة بتطويرها وتوفير بنيتها التحتية، ما يرفع من سعر الأرض التي تملكوها بسعر زهيد، وجني الأرباح الطائلة على حساب المواطن المغلوب علي أمره، الذي لا يستطيع تملك قطعة أرض صغيرة إلا في هذه المواقع التي عادة ما تكون بعيدة عن مراكز الخدمات العامة وشبكة الطرق المرصوفة. أما حينما تكون هذه الِهبات الكيلومترية مغمورة بمياه البحر التي يشكل دفنها خرقاً للمراسيم الملكية التي تحظر دفن أو ردم السواحل، حينذاك يُلجأ إلى تهيئة مخططات منح المواطنين أو مشاريع التطوير العمراني والترفيهي كحجة لدفن البحر الذي يفصل مواقع منحهم عن اليابسة، فتتحول بعد ذلك إلى أراض مدفونة وليست بحرا كما كانت من قبل. لا أحد يختلف على أن هذه المنح قد حلت مشكلة بعض المواطنين في امتلاك قطعة أرض سكنية، وأن هناك من صدرت لهم الأوامر بمنحهم قطعة أرض في أحد المخططات التي لم تُهيأ بعد للبناء عليها، يحاصرهم القلق وهم يرقبون وينتظرون اللحظة التي يرون فيها المخطط الذي وعُدوا به جاهزاً وأرضهم الممنوحة قد استوفت شروط البناء عليها. وهم في انتظارهم المضني هذا تتكالب عليهم المعاناة جراء تكلفة السكن في بيت مستأجر أو غير مناسب للعيش فيه. فالأسعار الخيالية للأراضي السكنية تحول دون شراء القطعة المناسبة التي تتيح لهم بناء المسكن اللائق، وتجاوز مر الانتظار القاسي الذي يفاقمه عدم الإصرار من قبل الجهات المعنية على إيجاد الألية المنطقية لتوفير البديل المناسب والآني، دون أن يكون ذلك على حساب دفن بحر أو طمر واد، لا تنحصر فوائدهم على من يحيا اليوم، بل وتتعداها للأجيال القادمة. إن تدمير البيئة الطبيعية لبحارنا وخاصة بحر الخليج الفريد من نوعه والمتميز بثرواته البحرية، لغرض توفير أراض سكنية أو ترفيهية لم يعد خياراً مقبولاً، وإذا قمنا بذاك في السابق من غير وعي وإحساس بالمسؤولية تجاه الغد، فاليوم تبينت حقائق كثيرة أوضحت مقدار وأثر الدمار الذي مارسناه في حق حاضرنا وحق المستقبل. فالدفن الجائر للساحل الممتد من شاطئ الغروب وانتهاء بالجبيل الذي جرى في غياب الوعي البيئي وهيمنة الفساد، قد أتلف كثيرا من الثروة السمكية التي كنا نعتز بوفرتها وطيب مذاقها. لقد منحنا الله بحراً هادئاً، وليس عميقاً كباقي البحار ما يتيح لأشعة الشمس الوصول إلى أعماقه فجعلته بيئة غنية تزدهر فيها الحياة البحرية، وتقدم الخير الوفير للسكان أجمعين، ولكن تأثير التلوث الآتي من مصادر مختلفة وتدمير البيئة عبر تجريف السواحل والقضاء على غابات المنجروف قد عبث وشوه ما منحنا إياه الخالق جل وعلا، ونحن يمكننا صيانة ما بقي منها ببعض من التضحيات والإرادة والمراقبة الصارمة لقوى الفساد كيلا تستمر في غيها المدمر.