هذا التساؤل بالنسبة لي، لا يتعدى كونه تساؤلاً يحمل طابع الاستفهام الاستنكاري. حشود الجماهير التي وصلت إلى ثلاثين مليوناً في عموم محافظات مصر حسب تقرير محطة CNN، لا يترك مجالاً للحديث عن أي انقلاب عسكري. في تاريخ الأحزاب السياسية العالمية لم يستطع أي حزب أن يحشد مثل هذه الأعداد غير المسبوقة، كي نقول بعودة فلول النظام القديم خلف هذه الحشود. غالبية الشعب المصري من الذين خرجوا ضد حكم الإخوان لم يكونوا مسيّسِين أو منتمين إلى أحزاب سياسية أو كانوا ضد الإخوان بوصفهم كذلك، بل خرجوا بدوافع تمس حياتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحقوقية، وإحساسهم بخطر انزلاق هوية الوطن والدولة ومؤسساتها المدنية إلى هاوية التطرف والتعصب على أساس ديني والذي خلقه حكم الإخوان. هذا الخروج الثوري يلغي أي مشروعية لديمقراطية الصناديق، وما دمنا نتحدث على أن الشعب مصدر السلطات، فإن شرعية الميادين الثورية تلغي شرعية الصندوق، والجيش المصري تحرك وفق هذه الشرعية. ولا أظن أن مبرر الخوف من عودة المؤسسة العسكرية إلى السلطة أو فلول النظام القديم يجعلنا نتعامى عن حقيقة الإرادة الشعبية الواضحة والجلية في الميادين. ولا أظن أيضاً أن الشعب المصري العظيم لن يتعلم الدرس من تداعيات ثورة «25 يناير» التي جرت على هامشها من تفاهمات بين العسكر والإخوان في غفلة من الثوار. إن ما يميز هذه الموجة الثورية الثانية للشعب المصري، أنها جاءت من خارج سياق الأحزاب السياسية، طاقة الشباب وروح تمردها هي التي حركت جميع فئات المجتمع، وجعلت كل فئة تنهض بدورها بصورة تكاملية، فترى المرأة بجانب الرجل في الميدان يؤديان الدور نفسه والأهمية نفسها في إشعال فتيل الثورة. فحركة «تمرد» التي لم تبدأ نشاطها إلا قبل الثورة بثلاثة أشهر، جمعت ما لا يقل عن مليونين و29 ألف استمارة، تعزز المطالبة بسحب الثقة من الرئيس مرسي بعد مرور أسبوعين فقط على انطلاق الحركة من ميدان التحرير كما يؤكد على ذلك مؤسسها محمود بدر. ورغم الاستخفاف بها من طرف التيارات السياسية، ووصفها بالمراهقة السياسية، إلا أنها سرعان ما انتشرت انتشار النار في الهشيم في أطراف المحافظات التي لم يعرف لها وجود في ثورة 25 يناير، ولم تمض فترة وجيزة حتى انخرط في الحركة ما لا يقل عن عشرة آلاف متطوع في تمرير الاستمارات للتوقيع عليها على طول البلاد وعرضها، ومن ثم إرجاعها إلى المركز في القاهرة. هذا الدرس الذي يعطينا إياه شباب مصر، درس للشباب العربي في الإيمان بقدرته على توحيد صفوف المجتمع، والإيمان بالعمل وفق آليات ديمقراطية تمتاز بالسلمية والتنظيم الجيد، وهذا ما لم يستوعبه الإخوان، ولم يدركوه، رغم ما اتسموا به من تنظيم، وما اشتهروا به من انضباط. لكن مواقع التواصل الاجتماعي التي اعتمد عليها الشباب بشكل فاعل، غيرت وجه المعادلة، ورجحت كفة الشباب بلا منازع، بيد أن هذه العوامل لم تكن تكفي (في تصورنا) لنجاح هؤلاء الشباب بالقيام بهذه المهمة على الرغم من قول مؤسس حركتها محمود بدر بأنها لم تقم بمهمة تغيير الرأي العام المصري باتجاه الثورة حيث إن هذه المهمة ليست سهلة، ولا يستطيع الشباب وحده بإمكانياته البسيطة القيام بها، لكنها استطاعت أن تظهر غضب الشارع المصري، وتفصح عنه، وتسعى إلى تنظيمه احتجاجياً، بطرق سلمية حضارية. يضاف إلى هذا الدور، دور آخر قامت به طبقة من الشباب المتعلم في جميع الاتجاهات: فنانين وممثلين وشعراء وكتاب وصحفيين، أثّر بصورة قوية في إعطاء الثورة زخماً كبيراً في التقدم نحو ديمقراطية متكاملة النمو والنضج وبما أننا ندرك تماماً أن عنصري الجهل والفقر هما العدوان اللدودان للديمقراطية وثقافتها، فإن الشرائح الكبيرة من الشعب المصري التي لا تعرف حقوقها في المواطنة ولا تملك القدرة الخطابية ولا الإمكانات المادية في التعبير عن تلك الحقوق، بسبب هذين العاملين، أصبحت عرضة للاستغلال والاستبداد السياسي والاستثمار الانتخابي من طرف النخبة السياسية الحاكمة والمنتفعة على حساب هؤلاء. لذلك من يرى ما تقوم به هذه الطبقة من الشباب المتعلم في بث روح الوعي الحقوقي والديمقراطي عند هؤلاء، والعمل ضمن أطر تنظيمية مؤسساتية لرفع الحيف والظلم، وإزالة المعوقات المعيشية اليومية عنهم، يدرك قيمة الأنموذج المثالي الذي يقدمه شباب مصر لبقية الشباب العربي، وليست هذه الثورة إلا إحدى نتائج هذا النموذج الكبير. لقد أدرك المصريون أن الخصومة السياسية، والاختلاف في التوجهات على أرضية سياسية لا يمكنها أن تؤدي إلى الإقصاء أو العنف ضد بعضهم بعضاً. لذلك رأينا الدعوات التي رفعت من هنا وهناك للتعامل مع شباب الإخوان باعتبارهم خصوماً سياسيين وليس بوصفهم أعداء ينبغي إقصاؤهم. الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الإخوان لا تبرر إقصاءهم بالتأكيد من المشهد، لكن عليهم أن يستوعبوا الدرس جيداً، وعلى تجربة الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي أن تعيد حساباتها وفق ما حدث في «30 يونيو» ووفق ما سيحدث من تداعيات بعدها. وليدركوا تماماً بالمقارنة، أن تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا لم تثق بها الشعوب الأوروبية إلا بعد أن تبنت قيم الحداثة من تشريعات في المواطنة والحقوق والاقتصاد الرأسمالي، ضمن النظرة المسيحية للحفاظ على الأسرة والتكافل الاجتماعي، ألم يحكم حزب الاتحاد الديمقراطي الألماني بهذه التوجهات ألمانيا الغربية أكثر من عقد من الزمن؟!. لقد أعاد هذا الحزب عند الناس، بعد تجربة النازية في الحرب العالمية الثانية، الثقة للأحزاب السياسية، بفضل جهوده للوصول إلى كافة شرائح المجتمع، هم يتعلمون من تجاربهم، وينهضون، بينما نحن ننتظر ونرى!.