في المدرسة السياسية يؤمن الزعيم في قرارة نفسه وهو يظهر على الشاشة مخاطباً الجمهور ب»لاعقلانية الجماهير»، ومن ثم فإنه يدعوها للتظاهر والتأييد وهو يرتدي قناعاً على وجهه لكي يقول لها ما يدغدغ عواطفها لا ما يعتقده عميقاً بالفعل، وهو ما رأيناه كمثال خلال الفترة الماضية من قِبل حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وبغض النظر عن ردة فعله الهمجية إزاء التيارات الليبرالية والعلمانية التي أخذت بيده حتى رشحته للرئاسة، فإن ما يهمني هنا هو ما يمكن وصفه بظاهرة جمهوره النفسي من بعض السعوديين، ونحن نرى الآن تخبطهم كأتباع استندوا إلى الحلم والوهم في انقيادهم لشعارات الحزب، وهو ما يهمنا بعد أن أدرك هؤلاء الأتباع مدى الانفصال الحقيقي بين وهمية الشعارات التي تدغدغ الأحلام (إقامة الخلافة الإسلامية الكبرى) وبين حقيقة ما تجسد على أرض الواقع من خلال رفض الشعب المصري واقع العودة للوراء والنكوص عن التقدم العملي والقولي بالأمة إلى الأمام. وهو ما أدى إلى الهجوم النفسي من قِبل هؤلاء الأتباع بشكل عشوائي ضد كل من انتقد نهج الإخوان، ويمكن من خلال رصد ردة فعله ولو في مواقع التواصل الاجتماعي التنبؤ بأن الأتباع اللاعقلانيين يجيدون الهجوم مع عدم المعرفة بالمواجهة. قبل أن نخوض في تحليل نفسيات أتباع حزب الإخوان السعوديين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واستناداً للمدرسة القديمة لعالم نفس الجماهير ومؤسسه الفرنسي جوستاف لوبون، وعن افتقاد بعض شعوب الأمة العربية بشكل عام للاستقرار السياسي والأمني بسبب الرغبات المستميتة لكثير من أنظمتها القيادية في العودة للماضي، مما أخرها كثيراً في الصناعة والإنتاج العلمي، أودّ أن أشير إلى أن كتاب سيكولوجية الجماهير جدير بالقارئ الكريم قراءته وانتقاده قبل أن يقرر بعقله لمن ربما سيتبع مستقبلاً، وقد أشرت لمكتبة تحميله في نهاية المقال من أجل الاستمتاع بقراءته باللغة العربية. كنت أتساءل عن صياغة شعارات الحروب الحزبية التي يبدو أنها تستمرئ الفشل في منطقة الشرق الأوسط من أجل الكرسي السياسي فيما لو تخيلنا لوهلة ردة فعل الشعوب لو كانت لادينية أساساً تُرى ماذا سيكون المبرر المقدم للاستئثار بالكرسي من هذا الكم المتوالد من الأحزاب السياسية المذهبية في المنطقة للجماهير.. بماذا سيكون إقناعهم ليكونوا أتباعاً لشعاراتهم؟! في العصر الجاهلي كانت مبررات الحروب بين العرب وقوى التمدد الإمبراطوري الفارسي والرومي لها أسبابها الجغرافية والعرقية، هو ذاته الاستجرار التاريخي لما يحدث اليوم على بعض الأراضي العربية دون تحقيق إنجازات فاصلة وحاسمة تؤهل أغلب دول المنطقة العربية للنهوض مع الأمم.. إذا عُدنا إلى نماذج المعتقدات المذهبية في المنطقة العربية، فإنني لا أجد مبرراً كافياً للانجذاب المقدس من قِبل ثلة من مواطني الخليج العربي خصوصاً بعض «المطاوعة» و»الأكاديميين» السعوديين لنهج الإخوان السياسي المصري خلال الفترة الحالية، إلا أنهم يدفنون مشاعر صراع ضدنا نحن الآخر الأكثر، ربما بعدما تولدت من انطوائيتهم وعدم اندماجهم مع المجتمع، وربما أنهم ضد أوطانهم بالمقام الأول، وربما أنهم اعتقدوا يقيناً بأن حلم الاستيلاء السياسي سيكون واقعاً قريباً. في السعودية ولسبب بسيط أراه لا يبرر انسياق أولئك الأتباع الواهمين للحزب المتشدد، فإنني أجد أن المدرسة الإخوانية في رؤيتها السياسية المدبلجة بتأويلات دينية تخدم توجهاتها لا تتسق أبداً مع المنهج السائد في البلاد، فضلاً عن عدم اتساق المدرسة الإخوانية أساساً مع كل المدارس السنية الأخرى. وأياً يكن توجُّه مدرسة الإخوان الضيق في إطاره وفشله الذريع في حصر مصر من أجله، إلا أن إيمانها بحلم تحقيق «الولاية» على كل بلاد المسلمين واستئثارها بموارد الدخل والتحكم في الشعوب وما إلى ذلك من خلال عيش ذاكرتها السياسية وإقامتها في الماضي التاريخي، يتنافى واقعياً مع توجهات الشعب المصري كشأن داخلي أثبتت فيه مدرسة الإخوان نقص وعدم كفاءتها إدارياً، كما أن هذا الحلم الضائع الإخواني لن يتحقق لا على البعد الجغرافي مع الدول الأخرى ولا على البعد المدني المنحسر داخل الدولة. حينما أتكلم عن دول الخليج العربي، فلا توجد دولة خليجية ترغب في العودة لشريط البداية بتسليم العقل لترويضات الأحزاب الدينية المسيسة لاستصدار الماضي وحصر تفويض مسار الأمن والنمو الاقتصادي والحضارة المدنية القائمة من أجل حزب سياسي ترتجع أفكاره لتأويلات دينية تخدم مصالحه بلغة أنانية عليا لا ترتضيها تقسيمات الشعب المتنوعة. ووفقاً لنظرية لوبون حول نفسية الجماهير التي تتلخص في أن الجماهير ظاهرة اجتماعية تتميز بانحلال الفرد في الجمهور وذوبانه فيه، كما أن القائد المحرك يمارس عملية تنويم مغناطيسي على الجماهير، أمكن القول بأن: – الجمهور النفسي يختلف عن الجمهور العادي أو العفوي للبشر في الساحة العامة، لأنه يمتلك وحدة ذهنية على عكس التجمعات العشوائية. – الفرد يتحرك بشكل واعٍ ومقصود، أما الجمهور فيتحرك بشكل لاواعٍ، لأن الوعي فردي تحديداً أما اللاوعي فهو جماعي. – الجماهير محافظة بطبيعتها على الرغم من التظاهرات الثورية، لأن الماضي لديها أقوى من الحاضر بكثير، كالشخص المنوم مغناطيسياً تماماً. – الجماهير أياً تكن ثقافتها أو عقيدتها أو مكانتها الاجتماعية بحاجة لأن تخضع لقيادة محرك، يفرض نفسه عليها بالقوة بدلاً عن إقناعها بالمحاجات العقلية والمنطقية، بحيث يمتلك لغة وأدوات جذب سحرية من خلال هيبته الشخصية، تماماً كما يفعل الطبيب الذي ينوِّم مرضاه مغناطيسياً. – الدعايات ذات أساس لا عقلاني تتمثل في العقائد الإيمانية الجماعية بأدوات العمل الخاصة بها، المتمثلة في التحريض من قريب أو بعيد، لأن معظم الأعمال ستنتج من عقائد إيمانية، أما التفكير النقدي وانعدام المشاعر اللاهبة فهذا يشكل عقبتين في وجه الانخراط والممارسة يمكن تجاوزهما بالتحريض والدعاية. جهل الجماهير بقوانين علم النفس التي يتّبعها القائد في معاملته إياهم يجعل من جهلهم قوة يستطيع من خلالها كسب مخيلة الجمهور والتأثير فيه وعليه، وهو ما أدى عبر التاريخ إلى إنجاز الأديان الكبرى والأعمال التاريخية العظيمة. لعل أهم مميزات الجمهور المتأجج أن أفراده ينصهرون في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على المميزات الفردية والسمات الشخصية، مما يؤدي إلى انخفاض مستوى الملكية العقلية. هذه الحالة وصفها لوبون بأنها أشبه بمركب كيميائي ناتج عن صهر عدد من العناصر المختلفة التي تذوب وتفقد خصائصها الأولى نتيجة التفاعل ومن أجل تكوين المركب الجديد. وبالنظر إلى أنماط الفكر الأساسية التي تبني لغة الحوار والخطاب، فإنه يمكن إدراجها تحت صنفين أساسيين، فإما أن تكون الأفكار مفهومية: بحيث تعتمد على القوانين العقلية والبراهين والمحاجة المنطقية، وإما أن تكون الأفكار مجازية: حيث تعتمد على قوانين الذاكرة والخيال والتحريض. ولا يعلم الجماهير بدورهم كأتباع مُذعنة وخاضعة أن أكبر خطأ يرتكبه القائد السياسي، حينما يستغل لاوعيهم، هو أن يحاول إقناع الجماهير بالوسائل العقلانية الموجهة إلى أذهان الأفراد المعزولين، لأن الجماهير لا تقتنع إلا بالصور الإيحائية (كدولة الخلافة الإسلامية العظمى) والشعارات الحماسية (إرساء العدالة والحرية) والأوامر المفروضة (تبرير قتل المعترضين لأنهم خوارج أو كفار… إلخ وإثارة الهلع في أوساطهم)، كل ذلك من شأنه أن يُكسب القائد جمهوراً خاضعاً متى ما عرف القائد السر في تهييج العواطف متحاشياً إثارة ومخاطبة العقل. ومن ثم فإن دورة الحياة والتبعية لقائد سياسي أو حزب ديني متطرف يؤمن بلاعقلانية جمهور يحب الانغماس في تقديس الصور الإيحائية، ستنتهي بالموت بعدما يفقد الحلم فيها قوته. يمكن للقارئ العزيز تحميل كتاب سيكولوجية الجماهير لعالم نفس الجماهير جوستاف لوبون من هذه المكتبة الإلكترونية مجاناً: http://noorbook.blogfa.com/category/20