منذ مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وإلى يومنا هذا، والمتشددون ما يزالون يثبتون يوما بعد الآخر أنهم أبعد الناس عن السياسة وعن التعاطي والشؤون السياسية بتمعن وحكمة. فالذين أفشلوا مساعي الإمام علي بن أبي طالب في توحيد الأمة الإسلامية، وأجهضوا نصره في معركة صفين على الفئة الباغية هم «القراء» المتشددون دينيا، الذين انقلبوا فيما بعد وأصبحوا خوارج الأمة الإسلامية يكفرون بارتكاب الكبيرة! فالسياسة كما يدركها من يمتلك أدنى أبجدياتها تحتاج إلى حكمة وصبر وتمعن وإدراك كامل وشامل للواقع، وإلى دراية تامة بالتفاصيل والمستجدات. كل هذا لا وجود له في قاموس الإسلاميين في هذه الفترة. فالجهل المطبق الذي يهيمن على هذا التيار العريض يمنعه من رؤية الأشياء على حقيقتها وتسمية الأشياء بمسمياتها. فمنذ بدايات الجهاد الأفغاني والإسلاميون لا يدركون أنهم مجرد دمية وأداة لتحقيق مصالح عليا هم أبعد الناس عن فهمها وعن إدراكها، فجهودهم ومساعيهم لا ترتقي لمجرد فهم لعبة الأمم وقواعد القوانين الدولية التي تحتكر المشهد الدولي. فبعد كل أزمة نكتشف الأمية السياسية المركبة لهذا التيار وفقره المعلوماتي الشديد، والقصور الذي يعانيه وعيه السياسي. فبعد انسحاب الروس من أفغانستان تقاتل إخوة السلاح على الحكم، وأضحوا مجرد أداة في زمن الحرب الباردة، وفي إرتريا وبعد جهودهم في الاستقلال عن إثيوبيا أُقصي المجاهدون عن المشهد السياسي، وفرضت القوى الكبرى الطغمة السياسية الحاكمة هناك. وفي العراق اُستخدموا لتأجيج الفتنة الطائفية وفجرت السيارات المفخخة باسمهم داخل الأحياء السكانية الشيعية، وعرقلوا مسيرة المقاومة الوطنية العراقية بحماقاتهم! وحتى في السعودية يذكر الباحث عبدالعزيز الخضر في كتابه «السعودية: سيرة دولة ومجتمع» أن الإسلاميين بدا عليهم جهل شديد بأبجديات السياسة إبان أزمة الخليج، والتفاصيل حول ذلك كثيرة. ولا يقتصر جهلهم على حقل السياسة بل يتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك، فأحد رموز الفقه الإسلامي المعاصرين أظهر من خلال خطبة ألقاها أنه يعاني من جهل شديد بالتاريخ الإسلامي بدليل أنه يجهل حتى ألقاب بعض خلفاء الدولة الإسلامية المتأخرين! وإذا ما تحدثنا عن الفقه المعاصر الذي كرس هذه الأمية السياسية فالحديث ذو شجون، فكثير من الفقهاء يتعاملون مع السياسة بعقلية الخوارج، فقط يرددون «لا حكم إلا لله» دون فهم أو إدراك للمعطيات على أرض الواقع. ففقهاء القرون الإسلامية المتقدمة أكثر وعيا وأكثر فهما لمعطيات السياسة من هؤلاء الذين كرسوا للأمية السياسية. فهذا الفقيه ابن عقيل الحنبلي قال في أحد مؤلفاته: «السياسة ما كان فعلا يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل فيه وحي. فإن قول لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فهو غلط». وليت شعري لو أن أحد العلمانيين في هذا العصر قال هذه العبارة؟! لربما كُفّر واتهم بالردة!