الباحة – علي الرباعي ارتبطت كتاباتي بردود الأفعال.. وقلما أراجع نصوصي لم تكن الأنثى في قريتنا إلا تلك اللغة التي نقتطفها حُبّاً من أفواه محدِّثينا نظل صغاراً في عيون من يعرفوننا.. وليس للحياة قيمة عندما نفقد من نحب غرم الله الصقاعي شاعر وكاتب ومُصلح اجتماعي ورياضي وتربوي، تقاعد ليتفرغ لحرية الكلمة، ورغم المحاولات العديدة للاقتراب من بئره الأولى ظل حذراً بحكم ما يربطني به من صداقة، عالمه نزق، وحالاته الفنيَّة قلقة ومرهقة، كونه قادراً على إثبات وجوده في كل فن، وعلى اقتناص المدهش واللافت، هنا بعض ما أتاحته المساحة من نبع البئر الأولى وما تلاها. * أين ومتى كانت الصرخة الأولى؟ - في قرية وادعة على سفوح جبال السراة منذ ما يزيد عن خمسين عاماً كانت الصرخة الأولى، لا أعلم أي يد تسلمت هذا القادم في زمن الشقاء، فقد حدثتني الوالدة عزة بنت حامد رحمها الله، التي كانت أمي وأبي، أنها لم تشعر بألم المخاض وهي تجلب الماء من البئر الأولى التي فطرها والدي حديثاً لسقاية مزارعه، لم تكن تعلم أني سأكون آخر عنقود يسقط من جدائل كرمها الذي جاد بابنين وبنتين من قبل، هنا كان الطفل المدلل يعيش أيامه الأولى بين حب والدته وغياب والده المتكرر للسفر للبحث عن رزق جديد، فهو ذلك الرحال المسافر دوماً دون وجهة إلا اقتفاء أثر الرزق، دون أن يتوقف في محطة من محطات كثيرة استقر بها حيناً من الدهر. * من أثَّر فيك من النساء؟ - كانت جدتي لأمي رحمها الله أكثر إشفاقاً عليَّ وأكثر اهتماماً بعد أن عادت والدتي للقيام بدورها في الحرث والصرام والري للمزارع من خلال الحقل الذي غرس والدي فيه أنواعاً من الشجر، بعضها يعتبر في حينه أُولى الشجرات وجوداً في تلك المنطقة، فمن شجرة التوت إلى شجرتين لليوسفي، وأخرى لجوز الهند أتى بها من بعيد لتصافح أشجار الرمان والعنب والمشمش والخوخ في حديقة غناء كانت مثالاً للجمال. ومن بعدها شقيقتي فاطمة بنت حمدان، التي كانت ولم تزل أمي وأختي و»وليّ أمري»، وتمارس أمومتها، وهذا حقها لما بذلته من جهد بعد أن تعبت والدتي وأعياها المرض. * ماذا بقي من الطفولة؟ - نظل صغاراً في عيون من يعرفوننا، صغاراً حتى وإن كبرنا، تلك الحقيقة الماثلة أمامي عندما أنظر إلى عيني أختي؛ إذ ليس للحياة قيمة عندما تفقد من تحب، فكيف يكون لها قيمة عندما نهمل من يحبوننا ونحن نتقاسم الهواء معاً. وفي هذا العالم الزراعي بعد أن بلغت الخامسة أخذني والدي رحمه الله معه إلى مكة، حيث بقيت هناك مع عمتي ومعه عامين، وهو الذي يعمل في كل شيء، وعشت مدنية مكة وأهلها حيث السكن والأكل والملبس وحتى اللغة والتعامل الإنساني الفريد، كنت صغيراً لكني مازلت أذكر تلك الأيام وأرى مكة الآن كما رأيتها أول مرة بتلك الفوانيس التي تعلق في الأعمدة عند الغروب، وإشارة المرور التي كانت في جرول ولم تكن إشارة ضوئية ولكنها كانت مقراً للعسكري الذي يشعرنا بوجوده دائماً من خلال الصفارة التي يطلقها لكل العابرين تقريباً لندرة السيارات في ذلك الزمن. * من هي الأنثى الأولى؟ - الحديث عن الأنثى في القرى وفي سن مبكرة والحديث عن ذلك التنوع في المزارع والحدائق التي تغطي أجزاء كبيرة من القرية، لم تكن الأنثى إلا تلك اللغة التي نقتطفها حباً من أفواه محدثينا، كانت الأنثى الأولى فتاة نتشارك معهم مورد الماء عند اكتمال التعب، لكنها مضت في مسارب الحياة وبقيت تلك الذكرى لحياة كانت النظرات تعني أن للقلوب عيوناً ولكن تنقصها الألسن لتبوح. * وما مدينتك؟ - مكة تظل المدينة الأجمل في مخيلتي قبل «تطاول البنيان»، علمتني الحب صغيراً، وعلمتني الحب شاباً عندما كنت أدرس في جامعتها، مدينة تسكن الروح، ولكن المدن كالنساء لكل مدينة عطرها ورؤيتها للحياة، وفي القاهرة أشعر بإنسانية غريبة أعرف شوارعها جيداً ولكنها لا تعرفني، مع أن أهلها أكثر شعوب العالم قرباً للروح مع كل من يزورهم، تبقى القاهرة صاخبة نهاراً فاتنة وجميلة ليلاً. * متى اقتنيت أول كتاب وكيف تنامت العلاقة بالكتب؟ - في المرحلة الابتدائية كنت مع والدي في مكة حيث يفتتح محلاً لبيع المسابح والخردوات في كل حج، وفي ذلك العام نشط البيع فأهداني عشرة ريالات وقال اذهب للحرم وعند عودتك خذ بها ما تشتهي، وكانت العشرة في ذلك الزمن تعادل ألفاً في زمننا، واشتريت منها أول كتابين في حياتي من مكتبة بالقرب من الحرم، وعدت إليه فرحاً سعيداً بما اشتريت، بقي هذان الكتابان معي إلى اليوم لأنهما يمثلان أول كنز أقتنيه بدراهمي، توالت بعد ذلك الكتب والقراءة، ساهم في ذلك معلمون مصريون في المرحلة المتوسطة بأخذنا إلى مكتبة المدرسة وإعارتنا الكتب حتى أني قرأت كثيراً منها في تلك الفترة. وبدأتْ مرحلة الجامعة بمكتبة صغيرة في جرول كانت تبيع الكتب المستعملة وبأثمان بسيطة، فاقتنيت منها كثيراً للقراءة في الإجازات، ولم يكن هناك غياب للمجلات، فعرفت العربي والفيصل والمنهل من البريد السعودي الذي كان قريباً من محلاتنا بالديرة، وكان هناك أعداد كثيرة تصل ولا يتسلمها أهلها فكانت موردي للقراءة، ومن الكتب الأولى المؤسِّسة للثقافة حضرت كتب التراث من النوادر وأمهات الكتب للجاحظ وحضر من العصر الحاضر المنفلوطي وروايات مترجمة وعربية، وفي عالم القراءة ترتبط أكثر ببعض الكتب، ومن ذلك مثلاً بداية تعرفي على عبدالرحمن المنيف من خلال كتابه في معرض القاهرة «مدن الملح»، والبحث في الكتب المترجمة للفكر الغربي الحديث، وهذه ساهمت بشكل كبير في البحث الدائم عن المختلف الذي في الغالب يشكل الجزء الأكبر من مكتبتي الصغيرة. لم يغب الشعر عن حياتي فأنا شاعر مفطور مطبوع، وتعلمت الشعر من غناء الرعاة والمزارعين في قريتنا مبكراً، لكني سعيت إلى صقل الموهبة بالقراءة، فجمعت دواوين كثيرة من معارض ومكتبات كثيرة من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، ولعل من المواقف الطريفة مع الكتب في إحدى المحاضرات التي كنت أحضرها لمحاضر كبير من بلادنا، وبعد أن صححت له معلومة قالها في محاضرته سألني بعد المحاضرة من أين أتيت بالمعلومة؟ فهي لا توجد إلا في كتاب واحد، ولا يوجد في المملكة إلا نسخة واحدة منه هي عندي، قلت له إذاً النسخة الثانية عندي. * ومن كاتبك الأثير المؤثر؟ - لا يوجد كاتب معين، ولكن يظل نزار قباني حاضراً بقوة في بداية المحاولات الكتابية الأولى وإن كان هناك كثير ممن تتأثر به، فالثقافة تقوم على التأثير والتأثر، ويعتبر المختلف هو الأكثر شحذاً للقراءة والكتابة، وليس من العدل أن نقول إنا وُلدنا كُتاباً. * ما أول نص نُشر لك؟ - أول نص نشر لي كان قبل أكثر من عشرين عاماً، أما المقالات لا أذكر أول مقال نشرته لأني مقل في الكتابة، وارتبطت الكتابة عندي في البداية بردود الأفعال وليس الفعل ذاته، والتعامل مع النصوص في الغالب هو احتفاء بحالتها الشعرية وإن كنت من أقل الناس مراجعة لنصوصه. * متى خفق القلب أول مرة؟ - خفق القلب أول مرة عندما كانت القرية تحتفي بأكلها ما تزرع ولبسها ما تصنع، فتلك الأيام كنا نرد الماء معاً ونحصد حقولنا معاً، خفق القلب وكانت الأغنية الأولى لي بالحياة كلمات يبتسم لها الجمال فأهيم في عوالم الحب والغناء، وعندها أيقنت أن الحب والغناء هما سر الوجود. * في ماذا تقضي وقتك؟ - في الحقيقة ليس كالقراءة زاد للثقافة، وليس كالمجالسة زاد لممارستها من خلال الحوارات أو الاستماع لمن يملك المعرفة والخبرة، الثقافة تحتاج كثيراً من الجهد والعناء، والكتاب هو الصديق، ولم أنقطع عن القراءة أثناء دراستي أو عملي أو حتى ممارستي للرياضة كلاعب أو معلم، كان الكتاب صديقي أين ما ذهبت، وكان يلفت انتباه الزملاء بالمدارس أن الكتاب معي حتى أثناء الحصص، وتلك المكتبة الصغيرة في غرفة الرياضة قرأت فيها تقريباً في كل فن، ولكن كان ينقصني المجالس أو المنادم على ما نقرأ نتقاسم معاً ما تجود به علينا عقول المبدعين والعلماء، ولكن في الفترة الأخيرة بعد أن توقفت عن الرياضة اشتغلت كثيراً على فكرة الكتابة والحضور، ما أسهم بشكل كبير في اكتشاف ما لدي من مخزون معرفي ثقافي. * ما عاصمتك ثقافة وعاطفة؟ - القاهرة فاتنة عندما تفتح لها قلبك بحب، وهي ساحرة عندما تفتح قلبها لك. * وما الحدث المؤثر في حياتك؟ - الحدث الأهم في ذاكرتي هو ذلك الحزن الكبير الذي كان يخيم على القرى عند موت أحد الرؤساء والتفاف الناس حول المذياع في بكاء وحزن مهيب، هذه الأحداث وشبيهاتها شكلت لدي معرفة بأثر الإعلام في صياغة عواطف الناس وتوجهاتهم. * هل تبكي ومتى كانت أول دمعة؟ - الدموع هي نحن في حالات الصدق مع أرواحنا، ولذلك هي أصدق تعبير عما نعجز عن قوله في حالات الحزن أو الفرح، وأول دمعة تلك التي كانت لحزن جماعي اجتاح القرية لموت الملك فيصل، فبكينا جميعاً ولا تزال صورة ذلك اليوم عالقة في ذهني، فالكل في نشيج حتى أني اتخذت مكاناً قصياً للبكاء. * أين إصدارك الأول؟ - الإصدار الأول لعله لم يكن إلا تقديماً لكتيب بمناسبة وطنية، وقد استقبلته باحتفاء كبير وبفرح غامر لأنه التجربة الأولى للنشر، أما على المستوى الإبداعي فلعله صدور ديواني الأول «لا إكراه في الحب» وتباينت مشاعري معه، فبرغم أنه أتى بعد طول انتظار إلا أنه لم يكن بذلك الوهج في روحي حيث القصور الكبير مني لعدم المتابعة مع الناشر، ويظل ذا مكانة فهو المولود البكر حتى وإن ولد معاقاً! * أين ومتى التقيت أول مسؤول؟ - لا أعتقد أن المسؤولين يذكرون لقائي بهم، لذلك يبقى مدير جامعة أم القرى راشد الراجح أهم من التقيت به، وذلك لأثره عليَّ فيما بعد؛ إذ منحني من حبه وأبوته ما أسهم في إكمال الدراسة بالجامعة. * من صديقك الأول؟ - الأصدقاء كثر، لكن الأقرب تلك إشكالية كبرى في المجتمعات القروية، الكل أصدقاء، لكن صديقك القريب هو روحك، وكان صديقي ومعلمي وأستاذي المرحوم سعيد عارف. * إلى أين يأخذك الحنين؟ - يأخذني الحنين إلى عالمي الجميل، تلك القرية التي كنت أرى أنها كل العالم قبل أن يصبح العالم قرية، تلك القرية التي فتحت بيوتها وقلوب أهلها الأبواب للحب والخير والجمال.