شغفُ الشعب السعودي بالجديد ميزة لا ينافسها ولا يسبقه إليها غيره من الشعوب. يتسابق السعوديون «إلى/على» المنتج الجديد، والخدمة الجديدة، والتقنية الجديدة، والأجهزة الجديدة، والمحلات الجديدة… كل ما هو جديد يجد في الشعب السعودي أفضل مستهلك، وأسرع مستخدم، ويجد في المجتمع السعودي أفضل بيئة تسويقية واستهلاكية. أعتقد أن خدمة الهاتف الجوال كانت أكثر خدمة تسابق إليها السعوديون حين دخلت المملكة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الميلادي الماضي، وبدأت خدمتها بالقطارة الضيقة جدا، في حين كانت رسومها عالية جدا، حيث دفع المشتركون الأوائل مبلغ عشرة آلاف ريال مقابل شريحة الهاتف الجوال! وتأتي خدمة الإنترنت في المرتبة الثانية بعد الجوال من حيث تسابق السعوديين إليها، وقبل دخول الخدمة إلى المملكة للأفراد عام 97 م، كان عدد من المولعين بالتقنية والتواصل مع العالم مشتركين في الخدمة عبر مزودين من خارج المملكة، وبخاصة من دولة البحرين. وفي السنوات الأخيرة، وبعد تسارع خدمة الإنترنت لدينا، تسارعت لهفة السعوديين إلى خدماتها وميزاتها المتعددة، وكذلك الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية التي تتواءم مع تلك الخدمات المتسارعة، فلا تعلن شركة ما عن هاتف أو طراز جديد إلا وكانت السعودية من أكثر الأسواق استهلاكا له. لا أظن أحدا يجادل معترضا على تحول المجتمع السعودي بعد دخول هاتين الخدمتين وتوفرها لمعظم فئات المجتمع وأفراده. تحولات حادة وسريعة غيرت المجتمع من جذوره، تغيرات وتغييرات على مستوى الفكر والرؤية والوعي، وعلى مستوى التعددية والتحاور، والتواصل مع المجتمع الداخلي والخارجي، وعلى مستوى أنماط الحياة والسلوك والأخلاقيات بطبيعة الحال. لست أقصد هنا الحديث عن آثار الإنترنت وتأثيراته السالبة والموجبة في المجتمع السعودي؛ إذ هي قد أُشبعت بحثا ودراسة وحديثا في محاضن التربية، ومنابر الإعلام المتعددة. ما أريده هنا لا يعدو محاولة لتقصي تحولات جانب من الحالة الأخلاقية للمجتمع السعودي المتشكلة عبر تاريخه القصير وتجربته الحديثة مع الإنترنت وقنواته وبرامجه ومواقعه وخدماته، تلك التجربة التي يبلغ عمرها هذا العام 15 عاما فحسب، وهذه المحاولة لن تجنح إلى التقويم أو التنظير قدر جنوحها إلى التوصيف والمسح السريع، بما يتلاءم وطبيعة المقالة والصحيفة، وحسب ما تسمح به ضوابط النشر وحدود الكشف والمكاشفة! في بدايات الإنترنت انتشر عدد من المواقع الإخبارية والثقافية والترفيهية، مع عدد من برامج التواصل النصي. شكلت بعض تلك المواقع ما يشبه صدمة حقيقية لمستخدم جديد في هذا العالم الافتراضي؛ الذي لا يمنح مستخدمه شيئا قدر ما يمنحه إمكانية التخفي والتستر خلف اسم مستعار، أو لقب مصطنع، يشكله كيف يشاء، ويصوغ عبره ما يريد من دلالات وإيحاءات توحي بشخصية المستخدم التي يرتضي أن يكون حضوره ضمن إطارها في هذا العالم! الأمر الذي أدى إلى انطلاق المستخدم من كل قيوده وأقنعته الاجتماعية والفكرية والثقافية المفروضة عليه بفعل فواعل ضغط متعددة. فأمكنه دخول هذا العالم الافتراضي بحرية تامة، ورغبة جامحة للاكتشاف والتجربة. الفرد السعودي – رجلا كان أم امرأة، صغيرا أم كبيرا- كان قبل الإنترنت محظورا عليه التواصل الطبيعي المتخفف من القيود مع أفراد مجتمعه أولا، ومع العالم من حوله ثانيا، وقبل ذلك كان محظورا عن حضور شخصيته الحقيقية، عن ظهور الإنسان الذي بداخله على هيئته الطبيعية، وحسب تكوينه الداخلي روحا وعقلا وجسدا، لذا كانت النتيجة الطبيعية أن ينطلق ذاك المكبوت في دهاليز العالم الجديد، مفصحا عن ذاته المتخثرة، معلنا عن وحشية أحيانا، وسادية أحيانا، وانتهازية أحيانا، وغواية أحيانا، واضطراب أحيانا، وضبابية وتخبط أحيانا وأحيانا وأحيانا! أنا لا أتحدث عن الجميع هنا، لكنني أعني شريحة عريضة من المستخدمين تعرفونهم جيدا… وبفعل عدد آخر من العوامل كانت قنوات التواصل والترفيه آنذاك من دردشات وشات وبرامج المحادثات هي الأكثر زيارة واستخداما ومشاركة وكثافة لدى أوائل مستخدمي النت لدينا، وبخاصة من شريحة الشباب من الجنسين، وبما أن مجتمعنا في الغالب يحرّم ويجرّم كل أنواع التواصل بين الجنسين إلى درجة جهل كل طرف بالطرف الآخر جهلا تاما، فقد كان الإنترنت هو الفضاء المناسب للطرفين لاكتشاف النصف الثاني من الجنس البشري الذي يسكن الأرض ذاتها، ويعيش حياته في المجتمع ذاته، لكن بينهما حواجز برلينية شائكة ومكهربة! فانطلق كل فريق باتجاه الآخر، دون محاذير ولا مخاوف، فلا الاسم ولا الهوية ولا الجنس ولا الجنسية ولا أية معلومات شخصية متاحة للآخر، سوى ما يسربه طرف لشريكه، وبالطريقة والصورة التي يرسم ملامحها هو فقط! ومع تعدد برامج التواصل والمحادثات وتطور خدماتها وإمكاناتها الصوتية والمرئية، تزايد إقبال المستخدمين عليها، وتضاعف حراكهم عبرها، وأصبحت البرامج الأكثر انتشارا لدينا كما هي في العالم طبعا، حتى صارت هدفا للإعلان والمعلنين، وتضاعفت مواقع الدردشة والشات وقصدها الإعلان أيضا نظير تزايد الإقبال عليها من قبل مستخدمي الإنترنت لدينا، فمعظم هذه المواقع هي مواقع سعودية، ويملؤها المستخدمون السعوديون، وصارت تلك المواقع تسمى بأسماء المدن والمحافظات والمناطق، بل حتى بأسماء الشوارع الشهيرة في مدننا الكبيرة، ومواقع أخرى تسمى بأسماء تعبيرية جذابة للعاطفيين والرومانسيين الهائمين والباحثين عن متعة التواصل مع الجنس الآخر! وإذا بحثت عن كلمة (شات أو دردشة) في قوقل فستظهر لك نتائج بالملايين، حتى يخيل إليك أن هناك موقع دردشة لكل عشرة أشخاص من سكان المملكة!! حسناً. لم تنقرض مواقع الدردشة والشات، بل ما زال لها روادها وحضورها الكثيف المتزايد، وفيها تدار أحاديث وحكايات عجيبة وغريبة ومتنوعة تنوع مجتمعنا وناسه وأجناسه؛ يدخلها المحتالون والدجالون والمبتزون، ويدخلها الفقراء المحتاجون فعليا لمساعدة، ويدخلها العابثون، والباحثون عن اللذات بأنواعها، وعبرها تنشأ علاقات، وتتم لقاءات افتراضية وواقعية… وأمور أخرى تؤلم المتأمل فيها، كل ذلك يتم والمستخدم مسترخ خلف شاشة حاسوبه أو هاتفه الذكي، يدير عالمه كما يشتهي ويتمنى. العالم الذي نصِفه بالافتراضي، تحول عالما حقيقيا وواقعيا، خاليا من التزييف عاريا من الأقنعة، وظل العالم الأول على افتراضيته ووهميته ومخاتلته التي يرتضيها ويعززها المجتمع أو القيمون عليه، ببلادته وخداعه وأقنعته التي تتجدد يوما بعد يوم… ونكمل الأسبوع المقبل بإذن الله.