إذا كان محمد البوعزيزي قد أحرق نفسه لأنه تلقى صفعة إهانة من موظفة عامة، جعلته يكفر بكل شيء حتى بالحياة نفسها فيشعل جسده في سيدي بوزيد لتنتشر النار في العديد من البلدان العربية، فإن العلاقة بين الإهانة التي تعرض لها لأنه أراد كسب رزقه بكرامة تسامت على الجراح، وبين حاجته للعمل كعنصر أساس من عناصر الحياة.. هي علاقة عكسية.لعل هذه الحادثة تقدم مؤشرات على خطورة الوضع المعيشي في البلدان العربية من حيث وصول مستوى الفقر حد توزيع الاهانات بما يحول البطالة إلى معركة للكرامة، وبالتالي تحولها إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة في أي مكان تتشابه ظروف البوعزيزي وما أكثرها.تعاني البلدان العربية من بطالة مزمنة بسبب عدم التوازن بين نسب النمو الاقتصادي الحقيقية وبين النمو السكاني، ما جعل نسب البطالة في البلدان العربية تسجل ضعف المعدل العالمي، يزيد من خطورتها عدم وجود برامج لاحتواء تبعاتها مثل التأمين ضد التعطل، حيث يغيب هذا الحال عن أغلب البلدان العربية، في أن عملية التطبيق في الجزء اليسير تتم بطريقة مبتسرة لا تقود إلى تخفيف حدة وطأة الفقر الذي تسببه البطالة في بلدان تتمتع أغلبها بثروات طبيعية وإمكانيات يمكن في حال استثمارها أن تتحول إلى نماذج لتوفير فرص العمل الجديدة. وقد حذرت منظمة العمل العربية من استفحال أزمة البطالة في البلدان العربية واعتبرتها واحدة من أكثر الأزمات خطورة، إلا أن البنية التحتية للاقتصاديات العربية غير قادرة على توفير فرص عمل للعاطلين عن العمل، فما بالكم بالداخلين الجدد إلى سوق يكتظ فيها الواقفون في طوابير منذ سنوات علهم يحصلون على ما يسد رمقهم ويستر عيشهم!تحتاج البلدان العربية إلى توفير أربعة ملايين فرصة عمل جديدة إذا أرادت الإبقاء على معدل البطالة كما هو عليه حاليا والبالغ %15، في حين يقدر مجلس الوحدة الاقتصادية التابع للجامعة العربية نسبة البطالة ما بين 20 إلى %25. وتؤكد منظمة العمل العربية في تقاريرها السنوية أن معدل البطالة في الوطن العربي هو الأعلى والأسوأ من بين دول العالم، فيما تستضيف الدول العربية أكثر من 12 مليون عامل أجنبي.ورغم أن منظمة العمل العربية قد قررت اعتماد العقد (2010-2020) بأنه عقد لتوفير فرص العمل الجديدة، إلا أن هيكلية الاقتصاديات العربية لا تنتج فرص عمل جديدة تتماشى مع معدل العمالة الجديدة، بل إن بعض هذه الاقتصاديات يعاني من تشوه كبير في هيكلته ويظل عاجزاً عن مواكبة الطلب المتزايد على العمل. لذلك فأن عدد العاطلين عن العمل في أسواق العمل العربية تضغط بشدة على عناصر الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وتهدد بوضع متفجر لاحظناه في بعض الدول بينما تتوجس الدول الأخرى من وصوله إلى عواصمها ،حيث تسجل البطالة في الجزائر مثلا نسبة تصل إلى %25، والمغرب نحو %12، وتونس نحو %14، والأردن %13 وسورية بين %11 حسب الإحصائيات الرسمية إلى %20 حسب بعض الإحصائيات المستقلة. ورغم الوفرة المالية في دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أن نسب البطالة تتراوح مابين قرابة %2 بعض دوله إلى %17 في دول أخرى، وهذه نسب تشكل خطورة على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي الذي بدأت تتواجد عنه مفاهيم غير تلك التي كانت سائدة قبل حادثة البوعزيزي في تونس. نشير هنا إلى أن الغالبية العظمى من العاطلين عن العمل في البلدان العربية هم من الشباب الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين عاما، يشكلون وقودا لتفجر الأوضاع الاجتماعية والسياسية خصوصا إذا ترافق ذلك مع الإحباط والشعور بالتهميش في بلدانهم وغياب العدالة في توزيع الثروة الوطنية. إذن نحن أمام معضلة جوهرية غير مفتعلة بقدر ما هي نتاج تراكم للاقتصاديات المشوهة في البلدان العربية والتوزيع غير العادل للثروة وعدم القدرة على توليد فرص عمل جديدة وازدياد أعداد الفقراء الذين يدخلون إلى قائمة الفئات المهمشة المحبطة، الأمر الذي يفرض ضرورة الولوج إلى نمط آخر من التفكير والتعاطي مع الأزمات التي تعصف بالاقتصاديات العربية والتأثيرات الاجتماعية الناجمة عن تداعيات الانهيارات المرجحة في هذه الاقتصاديات خصوصا في حلقاته الضعيفة المتركزة في البلدان ذات الأوزان السكانية العالية وذات الثروات الطبيعية المحدودة. فما حدث في تونس ومصر من ثورات هو مزيج من نتاجات الفقر والإحباط والشعور بالإهانة في بلدان يفترض فيها توفير سبل العيش الكريم لأبنائها وليس دفعهم إلى حافات اليأس كما حصل لواحد مثل محمد البوعزيزي.