بعد أن كتبت عن مشكلات الجراحة مثل نسيان شاش وقطن وأدوات في بطن المريض، جاء السؤال المحرج الأعظم، من القارئة المثقفة «جمانة» مَن مات تحت يدك في الجراحة؟ وهو سؤال يذكرني بالأخ الباتلي من مجلة المعرفة حين طرح سؤاله لعدد من الكُتَّاب، ليس عن النجاح، بل الإخفاقات والفشل؟ لقد علق عطاالله الكاتب في جريدة الشرق الأوسط على ما كتبت عن الهزائم التي منيت بها في حياتي فتأثر الرجل وأثنى، ولكنني متأكد أن هناك أناساً فرحوا وشمتوا؛ فإذا كان الرب قد جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، فكيف بالكتَّاب؟! المهم، أقول للأخت الفاضلة جمانة: نعم لقد مات تحت يدي أناس في الجراحة، لم يكونوا كثيرين، بل كان عددهم محدوداً أتذكرهم جيداً وأترحم عليهم وفي قصصهم عبرة لأولي الألباب؛ أما الصدمة العظمى التي منيت بها والأولى فكانت مع وفاة مريض ألماني في مدينة باينه (Peine) الألمانية حيث قَدِم السيد ميلاتسارسكي «أذكر اسمه جيداً» ووزنه فوق المائة، وسأل عمن يستطيع إصلاح نقص التروية الدموية في ساقيه قبل أن يتعرضا للبتر! نصحتْه ممرضة بالدكتور يالابي «الحرف الأول من اسمي ينطق بالألمانية يوت». وحين فحصتُه ودرست الحالة قلت له: لابد من تخفيض وزنك وهذا قد يتطلب شهراً من الصيام، صبر الرجل ووضعناه على حمية 800 كالوري في اليوم. صبر الرجل حتى أصبح رشيقاً في وزن الثمانين، فقلنا «يا الله» وحضَّرنا له من الدم ما يكفي وحجزنا له سريراً في العناية المركزة. سارت عمليتنا بريح طيبة وكنت أشتغل كالعاصفة وزرعت له شرياناً صناعياً في البطن من نوع الشوكة، أو يسميه الفرنسيون البنطال، فهو يشبه البنطال الذي يلبس. وحين فتحت بطن المريض رابني أمره وخدعني ما رأيت، فقد كان كبده متشمعاً. كنت أقرأ في الكتب ورأيت صوراً عن تشمع الكبد عند مدمني الكحول، هذه المرة واجهته ورأيته عياناً. انتهت العملية قال لي المخدر الإسباني «أجيلا»: هناك دم من الدرين «المصرف»؟ اعتبرته عادياً في عملية جراحة أوعية نازفة، أخذناه للعناية المركزة وأوصينا بإعطائه الدم ومشتقاته. بقي النزف يتابع طريقه بهدوء؛ فأخطأت ثلاثاً في تقديري للخطأ، وترددي في فتح المريض من جديد. قلت: إنه مريض لا يجلط كبده الدم، كان يقيني أن العملية مشت روتينية، وليس ثمة من حولي من يفهم في هذا الفن أكثر مني، وبذلك خسرت المريض بعد نزف عدة أيام. جاءت زوجته قالت لي: دكتور يالابي عملت الذي عليك، زوجي كان سكيراً مدمن خمر جالساً خلف التلفاز طوال اليوم شكراً للجهد الذي بذلت. بقيت في حالة صدمة أياماً، التفتت إليَّ ليلى زوجتي -رحمها الله- التي أصبحت في عالم ميلاتسارسكي، قالت: خالص لا أعرف، هل العزاء عندنا أم في بيت المريض؟ أذكر الحادثة لقرائي حتى يعرفوا قاعدة في الطب والجراحة؛ أنه ليس فيها كبير؛ فقد يقع أعظم جراح في أكبر اختلاط، وقد ترتكب أعظم النفوس أفظع الموبقات.