حينما يبزغ فجر الأربعاء المقبل لن نجد مداخن المصانع في كثير من البلدان تنفث دخانها كما اعتادت في أيام العمل، ولن يشعر أحد بلهيب أفرانها، ولن يسمع أحد صرير أتراس ماكيناتها، وستكون أدرع الروبوتات ساكنة في مكانها مسلوبة الحركة، وأنابيب مختبرات المعامل جافة خاوية من مساحيقها ومركباتها الكيميائية المتعددة الألوان ومن روائحها التي تزكم الأنوف، وأنظمة الأمن في المصارف والشركات المالية قد بُرمجت ليمتدد مفعولها 36 ساعة بدلاً من 12 ساعة، وعلى أبواب المباني الحكومية ثبتت لوحات «مغلق»، وحتى المدارس والجامعات أقفلت فصولها وقاعاتها وخلت مقاصفها من الطلبة والمدرسين. وابتدأت الحدائق والمتنزهات والمراكز الثقافية والفنية تهيئ نفسها لاستقبال زوارها في هذا اليوم الربيعي. فالجميع في عطلة رسمية بمناسبة الأول من مايو.. عيد العمال العالمي، الذي لم يعد حكراً على العمال الصناعيين وحدهم حينما انبثقت فكرته، بل أصبح عيداً لشغيلة اليد والفكر أجمعين. فكل من يساهم في إنتاج الخيرات المادية وتقديم الخدمات التي يحتاجها الإنسان في عصرنا الراهن يدخل ضمن هذا التصنيف، وهم بطبيعة الحال يمثلون أغلبية أفراد المجتمع. وكما هي بقية الإجازات الرسمية فهذه الإجازة لا تقتصر على فئة محدودة، بل هي إجازة للجميع، مما يضفي على الاحتفال بهذا اليوم سمات «الوطنية «، باعتباره يوم إجازة للوطن كله، وهو في الوقت نفسه تجسيد لما يُكن لهذه الفئة المنتجة من عرفان وامتنان لمساهمتها في تقدم ورفاه أوطانها. ومن جهة أخرى يعتبر الأول من مايو في البلدان ذات النظم الديمقراطية التي تسمح بحرية العمل النقابي والمدني، محطة تتوقف أمامها الحركات النقابية المحلية وبعض منظمات المجتمع المدني لتقييم الأوضاع الاقتصادية والقانونية والتوجهات السياسية التي ترتبط أو تؤثر بهذا الشكل أو ذاك بالواقع المعاشي لهذه الفئات العاملة، مثل: البطالة، التضخم المالي وغلاء المعيشة، الكفاية المالية لرواتب التقاعد، الحد الأدنى للأجور، استقلالية العمل النقابي والمجتمعي، وما غير ذلك من قضايا سياسية وتشريعية تقع ضمن اهتمامات الأغلبية الساحقة من السكان. لذا إن قُصر عمل النقابات بالقضايا المعاشية (في المعنى الضيق للكلمة) ودون أن يكون لها رأيها وصوتها المسموع في مجمل الحالة الاقتصادية للبلاد بصفة عامة، يجعلها كسيحة عاجزة عن حماية مصالح أعضائها الذين تؤثر عليهم مجمل السياسات والتشريعات الاقتصادية، إضافة لسلبها الدور الاجتماعي الذي تلعبه بصفتها مؤسسة مهمة ضمن مؤسسات المجتمع المدني، التي لا يستقيم أي مجتمع عصري دون حرية قيامها وعملها. وبالتالي فإن وجود «لجان عمالية» لا تسهم في النشاط المجتمعي المدني وليس لها رأي فيما يجري من حولها من تغييرات اجتماعية واقتصادية يجعلها محدودة التأثير والوجود، وحتى باندماجها في «اتحاد عمالي» فلن يكسبها ذلك المعنى الحقيقي للنقابة، ولن يجعلها تؤدي دورها كمنظمة مجتمع مدني فاعلة وقوية لها وزنها الاجتماعي وصوتها المسموع الذي يعتد به، ويمنحها الشجاعة للمطالبة بالأول من مايو كعطلة وطنية.