جرت خلال الأشهر الثلاثة السابقة محاولات مختلفة في تونس من أجل تجاوز حالة التشتت الحزبي، والعمل على بناء حزب قوي أو أكثر يكون قادراً على منافسة حركة النهضة خلال الانتخابات التي يفترض أن تنظم بعد سنة، وذلك للحيلولة دون سيطرتها على البرلمان القادم. لكن رغم الجهود الكبيرة والمضنية التي بُذلت إلى حد الآن، إلا أن الحصاد لم يرتقِ إلى مستوى طموحات الواقفين وراء هذه المحاولات. إذ بالرغم من الآمال التي أطقتها المبادرة الخاصة بتأسيس الحزب الجمهوري، إلا أن انسحاب كوادر أساسية كانت تنتمي إلى الحزب الديمقراطي التقدمي قد أضرّ بصورة هذه المبادرة، وترك وراءه انطباعاً سلبياً بسبب الغبار الكثيف الذي خلفته وراءها عملية الاستقالة الجماعية. والحزب الجمهوري هو ثمرة اندماج ثلاثة أحزاب متفاوتة الحجم مع عدد من المستقلين، يجمع بينها الطابع الوسطي العلماني. – مبادرة الباجي لاتزال غامضة: أما ما يعرف بمبادرة السيد الباجي قايد السبسي الذي تحمل مسؤولية رئاسة الحكومة السابقة، فهي وإن كانت لم تكتمل مقوماتها بعد، إلا أن عمودها الفقري فيما يبدو سيستند بالأساس على ما يعرف بأجزاء من العائلة الدستورية، التي تجمع الأوفياء لبورقيبة. وهي عائلة تشقها تناقضات عديدة، وبعض أجزائها على الأقل لم تمارس نقدها الذاتي والتاريخي بالعمق المطلوب. وهي إلى حد الآن لم تتجاوز عنصرين، أولهما شخصية الباجي قايد السبسي الكارزمائية، خاصة بعد أن أثبتت الممارسة أنه رجل دولة بامتياز. أما العنصر الثاني فيتمثل في التراث البورقيبي الذي تلمس آثاره في كل ركن من أركان المجتمع والدولة. لكن، بالرغم من أهمية هذين العنصرين، إلا أنهما لا يكفيان لبناء مشروع سياسي مستقبلي، يكون قادراً على كسب ثقة الشارع، وعلى إحداث القطيعة مع المرحلة الماضية. – المبادرتان مزعجتان: مع الصعوبات التي تواجهها المبادرتان، إلا أنهما قد يشكلان أرضية لتحالف بينهما في المرحلة القادمة، وهو ما من شأنه أن يعطي نكهة مختلفة عن الانتخابات السابقة. ولعل الخوف من احتمال أن تنجح مبادرة السبسي في إعادة إحياء الماكينة الدستورية القديمة بآلياتها وامتداداتها الجغرافية والاجتماعية، هو الذي جعل حزب المرزوقي وحركة النهضة يوجهان نقداً حاداً للوزير الأول السابق تجاوز في بعض الأحيان حدود الأخلاق السياسية، ويعملان على دفع أغلبية المجلس الوطني التأسيسي نحو منع أي مسؤول سابق في حكم بن علي من الترشح للانتخابات القادمة طيلة السنوات العشر القادمة. وبالتالي ستكون هذه المعركة ساخنة وشرسة نظراً لتداعياتها المباشرة على موازين القوى القادمة. – المؤتمر والتكتل والمستقبل الصعب: من جهة أخرى، يتجه حزب المؤتمر المشارك في الحكم بخطى متسارعة نحو الانقسام. ولا شك في أن ذلك سيؤثر على هذا الحزب الذي نقلته الانتخابات الأخيرة وبسرعة من حزب صغير يرتكز على نواة صلبة إلى حزب يتمتع بجماهيرية ملموسة، استمدّها بالخصوص من رئيسه د. المنصف المرزوقي ومن تضحيات ونظافة عدد من مؤسسيه. لكنه اليوم، يوجه رسالة سلبية لمنخرطيه ولكل الذين صوّتوا له، وذلك بالرغم من محافظة المرزوقي على شعبيته كرئيس للدولة له أسلوبه الخاص في إدارة قصر قرطاج بطريقة مغايرة لما حصل من قبل. – حركة النهضة المستفيد الرئيسي: لا نبالغ إذا قلنا بأن المشهد الحزبي السائد حالياً لا يخدم في نهاية الأمر إلا حركة النهضة، باعتبارها المستفيد الرئيسي من هذا التشتت، وهذا الضعف الناتج عن ترسخ تقاليد سلبية، وتغليب الذاتي على الموضوعي، وغياب بدائل واضحة، مع ضعف التواصل والاتصال بالجماهير. ويمكن تعليل ذلك من خلال الإشارة إلى الجوانب التالية: أولاً: خلافاً لمعظم الأطراف الأخرى، تعدّ حركة النهضة الحزب الوحيد الذي لايزال يتمتع بوحدته الداخلية، وبقدرته على إدارة خلافاته وتناقضاته بطريقة تعطي الأولوية لوحدة الصف. بل لعله الحزب الأكثر توسعاً من غيره بفضل وجوده في السلطة، وهو ما يؤهله فعلاً لكي تتوفر فيه مواصفات الحزب الحاكم اليوم وغداً. ثانياً: إن بناء أي حزب من الأحزاب يجب أن يتخلص أصحابه من عقدة الخوف من حركة النهضة. أي ألا يكون جهده منصباً على معاداة الآخر، وأن يجعل من تأليب الرأي العام ضده هو العامل المحدد لبنائه الذاتي. إنها استراتيجية عقيمة لا تساعد على بلورة البدائل. بل أكثر من ذلك، هي استراتيجية تخدم الخصم ولا تضعفه. وهو ما أثبتته التجارب. – ضعف المعارضة يؤدي إلى ديمقراطية كسيحة: أخيراً، يعيش المشهد الحزبي حركية ملحوظة. وهو مؤشر صحي، لكن ذلك يجب ألا يُخفي عمق العوائق التي لاتزال تقيد نمو الأحزاب، سواء داخل الائتلاف الحاكم أو في المعارضة. المؤكد أن ضعف الأحزاب، وعدم قدرتها على الاندماج وبناء قطب أو أقطاب قوية، لن يكون في صالح الديمقراطية التي قد تصبح هشّة أو حتى كسيحة إذا بقي حزب واحد هو الذي يتحكم في اللعبة، ولا يجد أمامه منافسين جدّيين وقادرين على ممارسة الرقابة الفعلية. كما أن ضعف الأحزاب ليس من صالح حركة النهضة، التي وإن لايزال من السابق لأوانه أن تقيم تجربتها في الحكم، إلا أنه إذا استمر نموها على حساب بقية مكونات المعارضة فإن ذلك من شأنه أن يورّطها بالكامل في إدارة الحكم، مما يجعلها تتحمل لوحدها هذه التركة الثقيلة، فتصبح بذلك عرضة، مهما كانت النوايا الطيبة لقادتها، لاكتساب كل خصائص السلطة بإيجابياتها وبأمراضها، بما في ذلك الهيمنة والانفراد بالحكم.