الباحة – علي الرباعي مكتبة المدرسة المتوسطة لا تدعني حتى أقرأ كتاباً عايش جيلي مسرحاً مدرسياً منفتحاً على الفن في الطائف تلقفتنا مناهج الجامعة بتيارات متباينة أبرزها «الإخوان المسلمون» تجتمع في عالي القرشي معان تدل على أن له من اسمه نصيباً، مثل علو الهمة والأخلاق والرقي واحترام الآخرين. رحلته مع الشقاء صنعت منه مثقفاً مهذباً وراقياً في قوله وسلوكه، كادت أن تنال منه الأسقام طفلاً فعالج بحروفه السامقة جراح كثير من محبيه حين اعتلى منصات القول والكتابة، لم يكن من السهل الإلمام بتجربة ثريّة ومنابع الجم في سطور، إلا أن القرب من البئر الأولى هنا يثير كثيراً من الفخر والاعتداد بالتجربة وصاحبها.. وهنا سَواقٍ هادئة: نشأة مرضية * كيف ومتى خرجت إلى الحياة؟ - في صبيحة إطلالة عيد شوال عام 1371ه، تعالت والدته على تلك اللحظة، وتعالى معها الزوج الحبيب، وسمياه (عالي) صحبه عناق الفرح مع الألم، وكأن ما اقترن بالوجود الأول تلبس به، فعانق نشأة مرضية كادت تؤدي به إلى الموت مرات وكرات، حمل من دلائلها بجسده وشوما ظاهرة وحروقاً شوهاء، وأخرى استحيت فاحتجبت رويداً رويداً على مر الزمان، الذي جاوز منه لحظة هذا التدوين السابعة والخمسين. معالجة هذلية * ماذا بقي في الذاكرة من حديث الأم؟ - رسّخت حكايات أمي بركة بنت علي بن عمر القرشي لحظات لم أكن واعياً بها، لكنها نسجت مع نشأتي صوراً للألم؛ لا أزال أذكر حتى هذه اللحظة ذينك الشخصين اللذين لا يرفعهما من رمل الضيقة إلا قدر نجائهما منه، يحملان رضيعهما الذي أعياه المرض في سباق مع الزمن ليصلا إلى (الحدية) المعالجة الهذلية، التي أجهل حتى هذه اللحظة العلاقات والدلائل لاسمها وفعلها، وما زلت حتى هذه اللحظة استرجع بصيص الأمل الذي يعانق لحظة استبشار عند الوالد ليحث الحبيبة على المسير مع تباشير الصباح الأولى، ويخيفها من الذئب حين يزعم لها أن الصوت الذي قرع أذنيهما تناهى عواؤه فيصوت قارعا له، ولا تجد بدا من محاولة الإسراع، وأتيقن أنه كان مداعباً لها. * ماذا فعلت بك تلك الطبيبة؟ - وشمتني وسرحان الذئب الذي يخاتل الزمن عقيرته زاهما يرفع: «الله يخلي لنا عالي وابنصحك لكل المعاني». * ما أبرز طموحات والديك في تلك المرحلة؟ - يطمحان يجي للحلال رعيان يعين والده، ويكافئه على سنوات من شقاء الرعي والترحال، وحمل الجمل الأشعل متاع الراحلين إلى (غرزة) من ديار هذيل، هناك استقر بنا الحال على ما يهبط به سرحان إلى الشرائع ومكة، ليعود ممتطيا غناءه وآماله إلى حيث الحبيبة والصغير، يندسان في طرف من خيمة إلى جانب صخرة منكهفة، تحضن مع صغيرها خوف الليل، والشوق إلى المقبل، الذي تستبشر بإقباله مع صوت حدائه الذي يشق به صمت الليل ليؤنس المنتظرين قبل أن يشرق في المكان. رضاعة الشقاء * هل احتفظت الذاكرة بشيء من ذلك التعب؟ - رضع الصغير الشقاء، لم يسعد بأخته رحمة التي عاجلها الموت، لتتسرب حالة العناء والفقد إلى أعماقه، فيرسل طاقة الفقد هذه المرة إلى دعامة الأسرة الصغيرة، إلى الجمل الأشعل عبر نبوءة طفل رددها على مسامعه الوالدان، وتطوف بذاكرته الآن كحلم فقد تماسكه الهش في ذاكرة طفل وما زال هذا الجالس أمامكم يحتضن شيئا من وجع البحث المضني عن غال عزيز ابتلعته متاهات الأودية، واستمطر دمع سرحان، ويستغفر من تبعات كلمات أطلقها ذلك المساء الصعب. تمر محطات صعبة وقلقة من العناء والفقد المتواصل للأشقاء الصغار، ما إن يعانق والداه بهجتهما بأحدهم حتى تنهكه الحمى، ويودع الحياة تاركا دمع سرحان، وثكل بركة، فيفقد سلمى بعد رحمة، ثم عليوي الذي أسمياه خيشان أملاً في أن يعافه الموت، ثم ثابا إلى الرشد، وتركا ذلك الاسم، ولكن الموت لم يتركه. الشقاء الذي نسجت والتفت عليه النشأة للصغير، جعل الآخرين يتوجسون من طاقة شريرة داخله، خيل إليهم أنهم سيحرقونها بعرقوبه، وتشاوروا على ذلك، والوالدة تمانع، وهم يهونون عليها الأمر، وهو يسبح الآن في بحر الست السنوات، لا يطيق الحروق، ولا يريد أن يكون عرقوبا، حزم القوم أمرهم الذي هول من شأنه الحديث المتكرر، والأخذ والرد، وربما تضخم ذلك من تضخم الأسطورة، كأنهم يريدون أن يضخموا ما يفعلون ليواجهوا به هول ما يعتقدون، وإلا فإن التنفيذ كان يسيرا إذ غافلني (حميد) أحسن الله خاتمته، بعقب سيجارته على عرقوبي ليختم تلك الحكاية. أفاء الله على الوالدين بعد ذلك بتحسن الأحوال والاستقرار قرب المدينة، الطائف، وعاش الإخوة الذين عانى بعضهم على درجات متفاوتة، وكان أكثرهم معاناة (خلف) أكبرهم بعدي الذي شارف على الموت مرات عديدة. مرحلة الابتدائية * متى بدأت العلاقة مع الكتابة؟ - استقر بعائلتي المقام في (الشبيكة) في الطائف، عند العم والجد للأم، اصطحبني الوالد مع العم حسين، إلى فلسطيني أنشأ ما يشبه الكتاب بسكن للأهالي حول معسكر المستجد، كان يعلمنا فيه القراءة والكتابة وفق المنهج الحكومي، لقاء أجر شهري يبلغ عشرة ريالات، وكان ما أن ينهي أحدنا كتابا حتى يشرع في تعليمه الكتاب الذي يليه، فكنت في فترة السنتين التي يحصل في أثنائها رحيل إلى الهدا في فترة الصيف من أجل الاشتغال في الحصاد هناك، قد تعلمت في بعض المناهج إلى مستوى الصف الخامس، إلا أن غمامة الشقاء لا تفارق رضيعها، فراودت مدرسة حكومية هي مدرسة قروى عام 1382ه، وأدرك الوالد أن المستوى الذي سيلحق به أقل من مستواه، وفي مساء ذلك اليوم يرى الوالد وهو يحاوره أن الحاجة له لأن يرعى الغنم ويتفرغ الوالد لجمع (الخرصان)، الذي كان يباع بسعر مجز تلك الأيام، أجدى من المدرسة، فيبدأ شقاء الرحيل عن التعليم، لكن القدر يكن فرجة أخرى، ومسارا مختلفا، فتح هذه السدة، التي لم تستمر أكثر من عام، إذ تنتقل الأسرة إلى قرية الدارالبيضاء في وادي محرم، وكان شعاع التعليم قد بسط رواقه هناك ليستوعب تلاميذ القرية وما جاورها من بلاد طويرق، فيمضي الجار مصلح النمري والوالد إلى المدرسة السعودية ليستقبلهما مدير المدرسة الأستاذ ضيف الله كامل حسنين هاشا باشا، فيعقد للوافد الجديد اختبارا مع مختبري الدور الثاني تلك الأيام من بداية العام الدراسي 1383ه، فيجتاز مستوى الصف الثالث ويلحق بالصف الرابع، وترحل الأسرة من الوادي، ويستقر صاحبنا عند أخواله من الرضاعة، عند خالي عبدالله بن وصل الله النمري، لأكمل تعليمي الابتدائي بتفوق هناك حيث حققت الترتيب السابع على مستوى منطقة الطائف، والثامن والثمانين على مستوى المملكة في امتحان شهادة اتمام الدراسة الابتدائية للعام الدراسي 1385/ 1386ه. روح الكتابة * إلى أين كانت الوجهة لاحقاً؟ - إلى دار التوحيد بشقيها المتوسط والثانوي، وفي أنشطة تعليم الطائف عبر احتفالات المدارس، والمراكز الصيفية، والمسابقات الثقافية والكتابية، تفتح لصاحبكم ومجايليه نوافذ كانت ضرورية لتحويل المكتنز المعرفي إلى ثقافة وعالم نعايشه فنعيش فرحة الفوز على هذه المدرسة أوتلك، أو الظفر بمركز متقدم في مسابقة أو كتابة يقال إنها بحث على مستوى المملكة أو المنطقة، ونعايش مسرحاً مدرسياً كان منفتحا على الفن، ويظللنا بجمال الروح والنغم، وفي أجواء تثرينا عبر محاضرات يتناوب عليها أدباء أمثال: أحمد أبو سليمان، السيد محسن باروم، عبدالله الحصين، محمد سعيد كمال، كنا نستلهم روح الكتابة والحوار. جذب الكتب * ماذا عن التثقيف الذاتي؟ - إلى جانب هذه الأجواء العامة كنا نشكل أجواءنا الخاصة، فصاحبكم ينجذب نحو مكتبة المدرسة فلا تدعه حتى يقرأ وهو في الصف الأول المتوسط كتاباً عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، عرف فيما بعد أنه محمل بأيديولوجيا الاشتراكية، والجزء الأول من كتاب «حديث الأربعاء» لطه حسين، واستقطبنا محل السيد لبيع الكتب المستعملة، التي يفضل بعضهم أن يسميها مكتبة السيد، فكنت أشترك مع صديقي عمير في قراءة بعض الكتب التي كنا نعيد بعضها إلى السيد فيشتريها بثمن أقل فنشتري بالثمن كتبا أخرى، وتنشأ بيننا وبين زملائنا رواد مكتبة السيد حوارات، يتم أغلبها في دكان محمود الصيني، حينما يكون الجالس في الدكان زميلنا عثمان الصيني الذي يحصل على كتب لا يحصل عليها زملاؤه، فيعير بعض من يثق فيهم شيئا منها. تسجيل فعل * هل تذكر بعض رفاق المرحلة، وأبرز التجليات؟ - في مرحلة التعليم الجامعي، انفتحنا على نافذة أوسع، وحاولنا أن نسجل فعلاً ثقافياً، فأنشأنا مجلة حائطية تحولت إلى مجلة تطبع بالآلة الكاتبة حملت اسم «الأصداء» ومن كتابها ورساميها سعيد السريحي، وعثمان الصيني، ودخيل الله أبو طويلة، وعاصم حمدان، وسعد حمدان الغامدي، وغائب الحارثي. وتلقفتنا مناهج الجامعة بتيارات متباينة، أبرزها تيار الإخوان المسلمين، إذ كانت تضم الجامعة أعلاما منهم محمد الصواف، محمد المبارك، محمد القاسمي، حامد حسان، محمد قطب، محمد أمين المصري، وكانت طبيعة التخصص اللغة العربية وآدابها تربطنا بتيار تجديدي في الأدب واللغة لدى أعلام أمثال عبدالصبور مرزوق، محمد هاشم عبدالدايم، عبدالبصير عبدالله، عبدالحكيم حسان، ثم لطفي عبدالبديع، وخليل عساكر، ومحمد الأنصاري، فاشتعلت بنا وبهم حوارات حول النص الأدبي، وطريقة التاريخ الأدبي، شجعها فينا أيضا رواد التعليم الجامعي في فرع جامعة الملك عبدالعزيز، أمثال: حسن باجودة، ناصر الرشيد، محمود زيني، مصطفى عبدالواحد، وعلي الكنوي، فكانت بعض الحوارت حول المدارس النحوية، والتقاليد الأدبية، وفصل النص عن الأيديولوجيا، وعلاقة النص بالدلالات الالتزامية مهيئة لنا للدخول في منهج جديد للتلقي الأدبي وقراءة النص. إعادة قراءة * ما أثر لطفي عبدالبديع عليكم؟ - فرض انفتاحا على المناهج الأسلوبية، وآلياتها من الدراسات اللسانية، والبنيوية، ما عزز قدراتنا حين صافحنا دراسة الماجستير، فأفدنا طلابا وطالبات من ذلك، بل إن بعضنا سجل أطروحات أظهرت تلقياً جديداً دحض مقولات مستقرة، فجاءت رسائل تنقض فكرة تعدد الأغراض في القصيدة العربية، وتلتمس الشعرية في مناطق العيوب التي سربها النقد العربي القديم، وتنتصر للغموض وعمق النص الأدبي، وبذلك تمت إعادة لقراءة النص العربي القديم، وتجديد في تلقيه، أزعم أنه بحاجة إلى مراجعة وتوثيق. * عما كانت أطروحتك؟ - كانت أطروحة الماجستير مع الدكتور الأزهري علي محمد حسن العماري بعنوان «المبالغة في البلاغة العربية تأريخها وصورها»، وأتاح لي شيخي العماري قدراً من الحرية يخالف قناعاته، كما صرح بذلك في المناقشة، وارتكزت الأطروحة على عدم تلقي النص الأدبي بمعيار الصدق والكذب، لأن النص له حقيقة أخرى، وعلى عدم الارتهان لمعنى أصلي يسبق سياق الكلام، واعتمد في ذلك على مقولات تراثية لأصوليين وفقهاء وأدباء، أمثال: ابن قتيبة، وابن تيمية، والقاضي الجرجاني، والإمام عبدالقاهر، بالإضافة إلى الدراسات الحديثة التي طالعها حينذاك في تلقي النص الأدبي. انحياز للتجديد * هل بنيتم أرضية للحراك الثقافي العام؟ - فور انتهاء مرحلة الماجستير عام 1402ه /1982م بدأ حراك ثقافي في المشهد الثقافي تركز حول النص الشعري بالدرجة الأولى شكله، وفهم معناه، وامتد إلى النقد، فاشتعلت الحوارات، وتنافست الأندية، وجمعيات الثقافة والفنون في عقد المحاضرات والأمسيات، وأنشط ذلك الملاحق الثقافية في الصحف المحلية، وقد غدا ذلك في اهتماماتها الأولى لأسباب بعضها ثقافي وبعضها إعلامي، وانحزت للتجديد، وعمق النص، والقراءة المثرية للنص، ما جر مصاعب عند مناقشة الدكتوراة التي كانت حول شاعر جاهلي هو بشر بن أبي خازم الأسدي.