أرى أنَّه من خلال واقعنا المعاصر، بحاجة لصياغة مفهوم جديد وصيغة مُتَّزنة لنقد العقل العربي، وقراءة منظومته الفكرية، وتفسير كثير من المسائل التي سبقنا إليها المفكر الراحل محمد أركون، أحد أقطاب الفكر العربي، الذي شاء القدر أن يموت، بعد أن وضع بصمته الأخيرة في مشروعه الفكري الذي نذر نفسه له، بكتابين مُهمَّين صدرا في عام وفاته 2010م، وهما (الأنسنة والإسلام- مدخل تاريخي نقدي) و(نحو نقد العقل الإسلامي)، المهم أنَّنَا وجدنا في كتابيه مراجعتَه وتفسيرَه لما طرحه من رؤى وأفكار في مشروعه لمدة أربعين سنة، ولم يتراجع كما ظن البعض، عن أفكاره، وهي أفكار أثارت كثيراً من الجدل؛ لأنها تتعلق بنقد العقل العربي والمقاربة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي. ودعوته بضرورة تنوير العقل العربي وإنقاذ تراث نهضة إسلامية ازدهرت منذ القرون الهجرية الأولى، من الشتات. آراء محمد أركون، وجدت معارضةً شديدةً من العلماء المسلمين والأصوليِّين المعتدلين؛ لأنهم وجدوا في اجتهاده لبناء فكر إسلامي تطبيقي يضع النصوص الدينية في ميزان تفسيرات التطبيقات العلمية المنهجية، ما يتعارض مع العقيدة، خصوصاً، دعوته لقراءة حضارية جديدة للقرآن الكريم، التي لاقت هجوماً عنيفاً حتى من قِبَل المستشرقين الفرنسيين من أصدقائه ومحبي الحوار معه الذين يثقون في رجاحة فكره، فهم يعتبرونه وسيطاً بين الفكرالإسلامي والفكر الغربي. بينما اعتبره بعض منتقديه المتشددين، مفكراً شاذاً عدواً لدينه وأمته، وقد شعر أركون بحدَّة تلك الانتقادات حتى أنه اعتبر الهجوم والنقد العنيفين من قِبَل منتقديه ومعارضيه، اضطهاداً ونبذاً له، وهي حالة يستشعرها المنبوذُ فكرياً، واعترف أركون بأنه رغم كونه من العلماء الباحثين المستنيرين، إلا أنَّه ظلَّ في نظر كثير من الفرنسيين الذين عاش بينهم سنين طويلة، وعرفوا أفكاره وسعيه لتبني المنهجية العلمية الغربية وتطبيقها على التراث الإسلامي، ظل في نظرهم ذلك المسلم التقليدي المُتزمِّت، الضيِّق الأفق. لم يتأثر أركون بفكرٍ بعينه، فرغم دراسته للفلسفة في السوربون ونقده لكثيرٍ من النظريات الفلسفية الفرنسية، وانتمائه لجيل ميشيل فوكو، وبيير بورديو، وفرانسوا فوريه، إلا أنَّه لم يتأثر بأفكارهم ولم يتفق مع كثير من آرائهم، وأركون يعتز بفكره، الذي يُعجِب كثيرين، لتمرُّده ورفضه لكل إكراهٍ يُمارَس على العقل والفكر، ولو عدنا بالتاريخ لوجدنا أبا حيان التوحيدي كمفكر من الأقدمين، كان ينبذ الفصل بين الفكر والسلوك (بين العمل الفكري والمسار الأخلاقي)، ومشروعه العقلاني بفتح كل الأبواب لقراءة تاريخ الأديان، وهي فكرة تتفق مع الدعوة لحوار الأديان، والمسلمون لم يمارسوا قط قراءة تاريخ الأديان؛ لأنَّهم وجدوها قراءةً مُحرَّمَة، لذلك أعرضوا عما كتبه ابن حزم وابن رشد مثلاً. إذا كنَّا نختلف مع كثير من آراء وأفكار أركون، فالاختلاف مع المفكرين المجددين المجتهدين طبيعي، لكنَّ ذلك لا يعني أننا لا ننكر فكرهم التنويري، ولا نقلل من قيمة اجتهاداتهم، وإن أخطأوا في بعضها.