إنها جريمة كبرى، كارثة، قنبلة جرثومية مقاس XXXXXXXL، أمر بسيط، لا تضخم الأمر، لا تتحسس أكثر مما ينبغي، ليست هنالك مشكلة، هونها وتهون، الشمس الحارقة هي الحل… ما الوصف المناسب الذي يستحقه ذلك المشهد الذي عاينته بنفسي مرتين في حينا السكني الراقي بالظهران؟قبل شهر أو شهرين أثار فضولي منظر (مريب؟!) لشاحنة متسخة واقفة في الصباح الباكر من يوم الخميس في جانب طريق يشق قلب حينا السكني المزدحم، وهي تجر صهريجا ضخما أصفر اللون من النوع المخصص لشفط قاذورات الصرف الصحي (في صورتها الأصلية أي أنها غير معالجة)، تجاوزت بسيارتي الشاحنة – متوجها إلى لقاء عمل مهم – بعدما لمت نفسي على تفكيري السلبي وسوء الظن بلا دليل ملموس، وألقيت نظرة سريعة على الجهة الأخرى من الشاحنة في مرآة السيارة، وسرعان ما أضحى شكي يقينا جازما وأكيدا ومريعا، فقد رأيت سائق الشاحنة واقفا (ببراءة أو…؟) إلى جانب أنبوب تفريغ الصهريج (السيئ الذكر)، والحمولة السائلة والصلبة القذرة النتنة الكريهة بلونها الأصفر والأخضر تسيل وتتدفق بلزوجتها وعفنها في عرض الشارع قريبا من منزلي ومنزل جيراني وأولادي وأولادهم، والرائحة الخانقة تملأ المكان. نسيت نفسي، ونسيت موعدي، وعدت أدراجي لأكون قريبا من الشاحنة والصهريج النازف، اقتربت منها متحديا الرائحة المنفرة الخانقة والمنظر المثير للقيء والمغص! «يارفيق ايش تسوي؟» (ورفيق كلمة عامية – هنا – تشير إلى عدة أجناس، ولا نقصد بها الانتقاص و السخرية)، نداء صارخ من قلب موجوع وجهته للسائق الذي بدا مرتبكا، ولعله لم يتوقع مرور أحد به في هذا الوقت، استمر السيل القذر، وغطيت أنفي، وتنحى الرفيق قليلا وقال لي (بلغة ركيكة): «في مشكلة»، ملوحا بيديه، ومشيرا إلى الأنبوب الطافح وزهمه المميت! لم أستطع التفاهم معه، وشعرت بالغثيان، فابتعدت عنه، ولجأت إلى حمى سيارتي وعطوري الباريسية.قلت لنفسي: هذا الموقف – بلا شك – يستدعي وقفة مواطن شهم مسؤول وغيور للإبلاغ عنه. اتصلت بذلك الرقم الثلاثي المشهور الذي يتلقى البلاغات ذات العلاقة بمخاوف الإنسان وسلامته من الشرور، قاومت قلقي وتأثري البليغ وحييت الموظف بلطف، ووصفت له ما حصل بحذافيره الممرضة، وطلبت منه التعجل واتخاذ اللازم لمنع هذه الكارثة البيئية والقنبلة الجرثومية، عندها أخبرني متلقي البلاغ: «بأن الأمر ليس من اختصاصهم»!قلبت إجابته في عقلي المرتبك، هل يقصد أن منع التلوث عن حي سكني مكتظ بالبشر ليس من عملهم؟ أليس هذا تهديدا صريحا لأمني (النفسي والروحي والبدني..) وصحتي وصحة أطفالي؟ أعدت عليه المقال – ملخصا – لأتأكد من فهمه للحالة، فأعاد مؤكدا: «إنها ليست من اختصاصهم»، ألححت وسألته عن الحل: فأشار علي – ظنا وتخمينا بعد الاعتذار – بالاتصال بجهة حكومية أخرى – كبيرة – تتخصص بعض مرافقها في نظافة الأحياء وتشجيرها، ولم يكن لديه رقم هاتف الجهة المقترحة.لا أذكر كيف انتهت تلك المكالمة (الخائبة) فقد كنت مصدوما مدهوشا وحزينا وكئيبا في الوقت ذاته، تركت الرفيق البائس وأنبوب التفريغ الدافق بالشرور، وواصلت مشواري مثقلا باليأس والإحباط والسلبية.تذكرت موقفا مشابها حدث في وضح النهار أمام منزل جاري قبل سنتين، عندما رأيت (رفيقا آخر) يفرغ حمولة صهريجه الأصفر الجرثومية المركزة في حفرة بعرض شارعنا، وكان عذره: أن دولاب الشاحنة عالق بالرمل، ولا مفر له من تفريغ الحمولة الخبيثة – أمام منزلنا – لكي يستطيع تحريك الشاحنة! كنت أكثر نجاحا – وإيجابية – في ذلك الموقف، فقد أوقف ذلك السيل القذر، وراقبته، وانتظرته، وهددته، حتى اتصل بجهة عمله الحكومية، التي أرسلت شاحنة أخرى ليفرغ حمولة شاحنته – الكريهة – فيها.ألا ما أشبه اليوم بالأمس من جهة جهل بعض السائقين أو تجاهلهم واستخفافهم بالأمر كله، ولعلنا – بصراحة – نرجع هذه اللا مبالاة من هؤلاء الأفراد إلى لا مبالاة واستخفاف – أكبر وأضخم وأوسع وأشد جرما – من قبل (بعض) الجهات الحكومية أو الخاصة التي تتولي تشغيلهم وصيانة هذه الصهاريج المشحونة بأطنان من السموم البكتيرية الضارة. أليست حمولة هذه الصهاريج القذرة ضارة بالإنسان، وتلوث بيئته، وقد تمرضه وتقتله؟أيحق لنا – كبشر ومواطنين – أن نشبه قضية هذه القنابل الجرثومية العملاقة الموقوتة التي تجوب – بلا رقيب أو حسيب – أحياءنا الآمنة بحادث الأمس الشهير الذي قتل وجرح وروع العشرات في طريق رئيس بداخل مدينة كبيرة في قلب بلادنا، حين اصطدمت وانفجرت شاحنة يحوي صهريجها الضخم كميات كبيرة جدا من غاز الطبخ؟ فكلتا الحالتين ضارتين وقاتلتين ومميتتين، وإن تأخر ظهور أضرار سوء التعامل مع قاذورات الصرف الصحي غير المعالجة. إن مرجع الحالتين هو الإهمال، الإهمال بمعناه الواسع والشامل الذي لا تستطيع – مهما حاولت – التهرب منه كل الجهات ذات العلاقة، وما أكثرها، وما أوضحها وضوحا يلجم كل المتنصلين من المسؤولية بالحجة الممجوجة المشهورة والمردودة: «الأمر ليس من اختصاصنا»! إن لدينا سؤالاً يلاحقنا ويفزعنا، ونحن لم نزل نتجرع مرارته باحثين عن جواب شافٍ وافٍ: ما هي جهة الاختصاص الفعلية المؤهلة والعاملة والمؤثرة التي بمقدورها حماية بيئة بلادنا المترامية الأطراف؟إن مفهوم البيئة لدينا (يكاد) أن يصبح مهمشا وخاويا وعديم الأهمية في ظل غياب (أو تغييب أو تقزيم) جهة الاختصاص المؤهلة والفاعلة، وفي دوامة البحث عنها، وعبثية التلاوم المستمر بين الجهات ذات العلاقة بها.إن لغة الأرقام الإحصائية المحلية والدولية وحجم الموازنات المخصصة والواقع المثبت والمشهود يحاصر إنكارنا لأصل القضية، ولعلها تضطرنا إلى الاعتراف والإقرار بأنه من الظلم البين والإجحاف في حق الوطن – بأكمله – أن يسند ويوكل أمر حماية بيئة بلادنا الواسعة لأجهزة ومرافق صغيرة غير مؤهلة للعمل، ولا ترد حين الاتصال برقم الطوارئ الخاص بها، وتفتقر افتقارا واضحا إلى الكوادر المؤهلة والقوى البشرية كماً وكيفاً بما يفي الحاجة الفعلية الضخمة للوطن أجمع وهي: حماية بيئتنا براً وبحراً وهواءً وموارد طبيعية وكائنات حية من الملوثات الضارة أيا كان مصدرها. إن لهذا الموقف – مع حقيقته المرة – نظائر كثيرة تفجعنا كل يوم ببجاحتها وجرأتها، ولعل منها – ما سمعنا مؤخرا- عن بعض تلك الجهات في سيهات بالمنطقة الشرقية، التي تخيف الأهالي والمزارعين بإراقتها المستمرة لكميات كبيرة من المواد الكيميائية (المشبوهة؟) بالقرب من أحيائهم وملاعب أطفالهم ومزارعهم. إن في الموقف الذي طرحناه وغيره شهود إثبات عدول لقضية أكبر، وهي حاجتنا الملحة والعاجلة لإيجاد جهة حكومية مركزية – أو متمركزة – مؤهلة وفاعلة وموثوقة، جهة تتجاوز مهمتها المرجوة مجرد إصدار البحوث وسن القوانين واقتراح آليات التعامل وتمثيلنا في المحافل الدولية إلى: العمل الميداني والإعلامي والتعليمي المكثف والعلاج الحقيقي السريع والفاعل لإيقاف وتجريم وعقوبة كل الممارسات الملوثة للبيئة في القطاعين الحكومي والخاص، جهة لها رقم مجاني للطوارئ ( يرد ويجيب ويستجيب) ويعمل خلفه على مدار الساعة فرق عمل مدربة ومؤهلة للاستجابة لمختلف الطوارئ البيئية وحوادث التلوث. أما من يرون أني مضخم ومبالغ فليسمحوا لي بتذكيرهم بمعنى البيئة، فهي التراب الذي تطأه أقدام أطفالنا، والسماء التي نعيش تحتها، والهواء الذي يتنفسه إنسان هذا الوطن، والبحر بحسنه وأنسه وخيراته وثرواته، والماء الذي نشربه، والحصاد الذي نأكله، وكل الجمال الذي يحيط بنا وننعم به حسا ومعنى، والموارد الطبيعية الضرورية لحياتنا، وهي مرآة صادقة تعكس ديننا وقيمنا وثقافتنا ووعينا والتزامنا، وهي إرثنا وعهدنا من آبائنا وأجدادنا، ومآلنا أن نورثها لأبنائنا وأحفادنا، فماذا عساهم أن يقولوا عن جهدنا في الحفاظ عليها؟ ألا إن كلمة شكر وامتنان منهم لحفاظنا عليها أفضل – بلا شك – من دعائهم علينا – بعد رحيلنا – لأننا لم نحافظ على إرثنا وعهدنا.