ما تردَّدتُ في كتابة موضوعٍ ما مثل تردُّدي في كتابة مقالي هذا، تحرِّكني فكرة فتصدُّني أخرى وهكذا، ففي صحيفة الشرق خاصَّة قرأتُ في موضوع مقالي عشرات المقالات والأخبار والتحقيقات وضعفها من التعليقات، منها ما يدفعُني للكتابة، ومنها ما يمنعُني عنها، وسمعتُ من أحاديث المجالس وطروحات المنتديات ما يؤثِّر اندفاعاً وامتناعاً، حتَّى عزمتُ إنهاء حالة التردُّد لديَّ، فكانت لي كتابةُ موضوعي هذا من خلال هذا المدخل الاستهلاليِّ. يختلف الكتَّابُ والمتحدِّثون حول ظاهرة الإثيوبيِّين في بلادنا اختلافاً يقسمهم على طرفي نقيض؛ لدرجة التشكيك في طرفي الاختلاف كليهما؛ وباختفاء الحقيقة بين الطرفين، فشائعات المتسلِّلين الإثيوبيِّين سُبِقَتْ بأخبار جرائم العاملات المنزليَّة من جنسيَّتهم سرداً وتضخيماً، وربَّما كان لمكاتب الاستقدام دور سلبيٌّ في ذلك لتأثُّر مكاسبهم بالانصراف عن دول الاستقدام المعتادة، ولكن في نهاية الأمر حلَّت الإثيوبيَّات أزمة العمالة المنزليَّة، وتجاوز المجتمع السعوديُّ الشائعات عنهنَّ لشائعات متَّصلة بهذه الجنسيَّة، فاسْتُخْدِمَتْ جهاتُ التواصل الاجتماعيِّ والصحفُ الورقيَّة لتعزيزها ونشرها، فضخِّمت أعداد متسلِّليهم، وهوِّلتْ جرائمُهم من سرقاتٍ وقتلِ واغتصابٍ وتصنيعٍ للمسكرات وترويجٍ لها وللمخدِّرات ونشرٍ للدعارة، وقطعٍ للطرق واعتداءاتٍ على المواطنين، وكلُّ ما يُدْرَجُ ضمن الجرائم الأخلاقيَّة والأمنيَّة، بممارساتٍ يوميَّة عديدة متكرِّرة هنا وهناك صوِّرتها بأشدِّ الجرائم عنفاً، سواء أكانت في المنطقة الأولى بمسار تسلُّلهم أم في المناطق الداخليَّة على طول البلاد وعرضها، صورة ذهنيَّة مرعبة يتناقلها المواطنون عنهم. صورة لا أؤكِّدها ولا أنفيها ولكنِّي في إطارها سأعرض في نقولاتي درجة التناقض فيها فيما كتبه كتَّابُ صحيفة الشرق ومحرِّروها فقط، ففي عددها 459 كتب الأستاذ أحمد هاشم مقالتَه الأسبوعيَّة بعنوان «فزَّاعة السعوديِّين» واصفاً الإثيوبيِّين بأقدم الشعوب تحضُّراً على وجه الأرض، وبأنَّ ثلثهم مسلمون، إذْ دخل الإسلام بلادهم إثر احتضانها أوائل المضطهدين المسلمين المهاجرين إليها، وقال: «إنَّ هذه الإشاعة عنهم كشفت سَوأَةَ الإعلام الإلكترونيِّ، وعدم رزانته وحنكته في نقل الأخبار التي ألَّبت المجتمع على تلك الجنسيَّة، وأظهرت الجانب الأسود داخلنا بانتهاكنا لحقوق الإنسان وكرامته، وبتجاهلنا للسلطة السياسيَّة والأمنيَّة، فالإثيوبيُّون كغيرهم من مواطني الدول القريبة الفقيرة غير المستقرَّة يتسلَّلون لبلادنا بحثاً عن لقمة العيش فيتلقَّفهم السعوديُّون المخالفون لأنظمة بلادنا، ويسهِّلون عليهم التسلُّل والتنقُّل ويقدِّمونهم لبعضهم عمالةً رخيصةً جداً، وقال: ليست المشكلة في المؤجِّجين للإشاعة والمستفيدين منها، ولكن في طرح لمستشار قضائيٍّ ونفسيٍّ كما يصف نفسه حيث قال: «إنَّ من يقومون بتهريب وتسهيل نقل الإثيوبيِّين المخالفين هم السعوديُّون المجنَّسون؛ ليظهر عنصريَّته المقيتة»، بل وربط آخرون تسلُّلهم بتورُّط إيران، ليقول الكاتب أخيراً: «إنَّ ظاهرة التسلُّل ومخالفة أنظمة الإقامة ليست مشكلة الإثيوبيِّين الذين أظهرهم الإعلام كوجه آخر للشيطان فقط، بل عديد من الجنسيَّات التي اعتادت الدخول للمملكة من منافذها المختلفة والتخلُّف والمخالفة، ووجود مواطنين يستفيدون من ذلك تسهيلاً وتغطيةً وتستُّراً عليهم». وفي عدد 462 من صحيفة الشرق وبعد إشارة كاتب الرأي فيها الأستاذ سلطان الميموني لهجرتي المسلمين إلى الحبشة وموقف ملكها من استضافتهم وحمايتهم، سرد 13 واقعة لجرائم الإثيوبيِّين ولمطاردات مواطنين وأجهزة أمن لهم، واختتم مقالته بتحليله الشخصيِّ قائلاً: «وقد يكون هناك من يقف خلف هذه الهجرة (السوداء) والله أعلم، فقد ثبت أن أكثر أولئك المتسلِّلين من النصارى، ومن يهود الفلاشا، ولا يجوز والوضع هذا استخدام سياسات الدمدمة؛ لأنَّ الخطر واضح، فقد وصل أولئك إلى معظم مناطق المملكة، فيجب إذاً تحذير الناس لا تخديرهم». وفي صفحة قضايا الشرق عددها 462 سأل محرِّراها: يوسف الكهفي ومحمَّد العوني مساعدَ مدير الأمن العام لشؤون الأمن اللواء جمعان الغامدي: ماذا عمَّا يروَّج له عن مشكلات الإثيوبيِّين؟، أجاب قائلاً: «هل فتَّش المروِّجون لهذه الشائعات عن إقامة أو جنسيَّة، وقال: نحن لا نتستَّر على أية مشكلة أو جريمة، وإن حدثت فهذا لا يعني أنَّ الأمن اهتزَّ في البلاد، فهناك شائعات تمَّ تناقلها عبر مواقع التواصل الاجتماعيِّ وهي عارية من الصحَّة، ونحن في النهاية ليس لدينا ما نخفيه أو نتستَّر عليه، وقال: للأسف هناك من يأخذ الشائعة ويضخِّمها، وعندما قلتُ: إنَّ الجريمة في انخفاض فأنا أتحدَّث من خلال وثائق وحقائق وأرقام». ومن أبناء منطقة جازان المدخلِ الجغرافيِّ للمتسلِّلين كتب كاتب الرأي في صحيفة الشرق في عددها 458 الأستاذُ أحمد الحربي مقالتَه الأسبوعيَّة بعنوان: «عصابات المتسلِّلين والانفلات الأمني»، فأشار لكثرة الرسائل المرعبة عن الإثيوبيِّين لدرجة أن تلبَّس الخوف المواطنين فامتنعوا عن الخروج من منازلهم وعن الذهاب لمدارسهم وكليَّاتهم، ومن الطالبات من أصبن بالانهيار والهلع خوفاً من عصاباتهم، وقال: «وبالمقابل نجد بعض الجهات الأمنيَّة أكثر هدوءاً، وكأنَّ هناك نوعاً من عدم التصديق لما تتناقله وسائل الإعلام؛ ممَّا يجعلنا في حيرةٍ بين الجهات الأمنيَّة ورسائل التحذير، وقال: يجب ألاَّ نستسلم لبعض وسائل التخدير فلا بدَّ من إجراءات سريعة وحاسمة على المستويين الأمنيِّ والإعلاميِّ حتَّى لا تتفاقم المشكلة وتصل لمراحل لا نستطيع معها إيجاد الحلول»، ويلاحظ الكاتبُ ميدانيّاً كثرة أولئك وتجمهرهم وفزعهم وهروبهم من التفتيش الأمنيِّ، ليقول: «وللأسف نجد سوقاً رائجة بينهم وبين المواطنين، وعددَّ جرائمهم الأمنيَّة والأخلاقيَّة مختتماً مقاله قائلاً: لكن الأمر لم يصل عندنا إلى القتل أو هتك الأعراض كما تناقلته رسائل التحذير». وعموماً فما تعانيه بلادنا من المتسِّلين الإثيوبيِّين وغيرهم ما وصل لما وصل إليه إلاَّ بفعل مواطنين مخالفين لأنظمة وطنهم وتسهيلهم ذلك، وما نقرأه عن الحملات الأمنيَّة الأخيرة في المناطق الجنوبيَّة وغيرها يوحي بخطَّة أمنيَّة يجري تنفيذها ستخفِّف بإذن الله وبجهود رجال الأمن من تجاوزات المتسلِّلين والمواطنين المستفيدين منها ومن حالة الرعب، ولكن المواطنين يؤمِّلون أن يكشف المتحدِّثُ الرسميُّ عن وزارة الداخليَّة لهم الصورةَ الأمنيَّة عن الإثيوبيِّين خاصَّة، وحقيقة المتداول عنهم.