عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر هو أحد أبرز الثلاثة الذين طوروا نظريات علم الاجتماع، بجانب ماركس ودوركايم. برز في أواخر القرن التاسع عشر كواحد من الذين اهتموا بسؤال الحداثة من منظور المجتمعات الصناعية. وكانت دراسته الأهم والأشهر هي «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» التي أعاد من خلالها أهمية التصورات الدينية والمعتقدات في تأثيرها القوي على الاقتصاد لأي مجتمع، ضارباً صفحاً عن الفكر الماركسي الذي لا يرى أي تأثير قائم بينهما. وعليه، كان يرى المجتمعات الغربية هي وحدها التي استطاعت أن تستوعب المكتسبات الصناعية والتقنية للحداثة، واستبعد ما عداها من مجتمعات الحضارات الأخرى كالإسلام والصين. وكان مصطلح «العقلانية» من أبرز المصطلحات التي ارتبطت عند ماكس ويبر بالمجتمعات الغربية، على اعتبار أنهم وحدهم من «نزعوا السحر عن العالم»، أي أنهم أخذوا بالأسباب المنطقية والعقلانية في تحليل ظواهر الحياة والكون والعالم، ورموا بالغيبيات في سلة الخرافات والأساطير. وهذا ما لم يحصل لبقية المجتمعات. مقولة «نزعوا السحر عن العالم» سرت سريان النار في الهشيم، ولم يبق باحث أو مفكر أو ناقد إلا وجعل من هذه المقولة إحدى خصائص حداثة المجتمعات الغربية، وهو أمر لا غبار عليه، إذا ما وجهنا زاوية نظرنا إلى النظرية المعرفية الغربية فقط دون الواقع والممارسة، وكذلك إذا اقتصر كلامنا على العقلانية التقنية التي طبعت حياة الإنسان الغربي في شتى مجالات حياته؛ السياسية والاقتصادية والفلسفية والتربوية. من هذه الزاوية تحديداً مارس الفكر النقدي الغربي أشد أنواع النقد، وأنزل الضربات تلو الضربات على الآثار السلبية التي خلفتها هذه العقلانية، بدءاً من هيدجر ومروراً بتيودور أدرنو إلى هابرماس. لقد أسهمت هذه المقولة في إضفاء الطابع الأسطوري على العقلانية الغربية،على الأقل في أذهان الكثير من أبناء المجتمع العربي. وأصبح الانطباع العام أو الصورة النمطية عنه تتحدد سماتها من كون هذه المجتمعات تخلصت تماماً من شتى صنوف الخرافات التي تنتمي إلى عقل المجتمعات القديمة. ومن ثم أصبحت مثل هذه العقلانية مطلباً للجميع، وإحدى أهم الركائز المقترنة بمفهوم التنوير. لا شك أن هذا الحديث يعدّ بديهياً بالنسبة للإنسان العامي، ناهيك عن الإنسان المتخصص. لكن كل هذه المقدمة أردتُ من خلالها إثارة التساؤل التالي، لماذا لم نضع عقلانية الغرب إزاء مخيلته من خلال البحث والتقصي والدراسة؟ يبدو لي أن هناك نتيجة سنقررها سلفاً، هي ضراوة المواجهة التي لم تتوقف بين عقلانية مفرطة في عقلانيتها، وبين مخيلة تعيد إنتاج ما حاولت تلك العقلانية أن تخفيه أو تطرده من مجال تفكيرها. هذه الضراوة هي التي تطبع اللحظة الراهنة من حياة المجتمعات الغربية. يمكن الاستشهاد هنا بأحد أهم الفنون التي تنتجها المخيلة الغربية باحترافية عالية، وهو الفن السينمائي باعتباره الفن الذي مكّن جميع القيم الدينية والمعتقدات والحكايات والأساطير والأناشيد منذ عصر الإغريق إلى عصر ما بعد الحداثة من التمدد والظهور، والتعبير عن نفسه ضد كل تهميش طاله من الفكر العقلاني الغربي. وأيضاً إعادة إنتاجه بما يخدم المصالح السياسية والثقافية والاقتصادية التي ينهض بها الغرب السياسي. من نافل القول، والذي لا يخفى على الكثيرين أن، الفن الغربي (خصوصاً فن الموسيقى والرسم) أسهم بقوة، بجانب فنون الأدب في صناعة الحضارة الغربية، بل كانت الموسيقى وتراث عظمائها منذ عصر النهضة إلى مطالع القرن العشرين، هي السمة الأكثر تميزاً عن باقي الحضارات، في إظهار وجه أوروبا الخالد والعظيم، ولو الموسيقى وتراثها العظيم -فاغنر وموزارت وريتشارد شتراوس- لما توحدت أوروبا تاريخياً على رأي بعض النقاد. لكن هذا الإسهام خفت وتوارى خلف جملة من العوامل التي طالت الحياة الغربية، وأهمها تحويل الفن إلى سلعة خاضعة لمؤثرات اقتصاد السوق وقرارات رجال السياسة؛ لذلك عندما ينطوي الفن السابع (السينما) على رؤية تتشكل أبعادها من الأساطير والخرافات والحكايات، وتتغذى على فكرة حتمية النهايات للعالم وحتمية صراع الخير والشر، فإن الدلالة الأكثر عمقاً التي يمكن استنتاجها من ذلك، هو الحنين للماضي البعيد الذي يخرج من عمق التاريخ ليتلبس الشخصية الغربية في بعدها الروحي والاجتماعي والتاريخي. وهناك سلسلة كبيرة ومتنوعة من الأفلام التي تشير إلى مثل هذا المنحى؛ سلسلة أفلام هاري بوتر، وكذلك فيلم «ماتركس» بأجزائه الثلاثة، أو فيلم «2012» الذي يستعير قصة الطوفان كنهاية للعالم وبداية حياة أخرى، وفيلم «أفاتار» دلالته صارخة في هذا المستوى من التعبير. فكرته تمثل خليطاً من الأساطير الإغريقية والفلسفة الأخلاقية وفكرة الخلاص الهندوسية. المساحة هنا لا تتسع لاستعراض فكرة الفيلم، لكن ما يهمنا منه هو تحديداً فكرة النهايات التي نرى هوليود مهووسة بها إلى الحد الذي يتم توظيف هذا الهوس سياسياً لإيجاد الظروف التي تعجّل بنهاية العالم. «ولعل تجمع اليهود الصهاينة في أرض الميعاد واحد من الشواهد المعروفة لنهاية العالم، ولعل تمتعها بحماية تامة من الأنظمة الغربية يشير إلى نوع الساسة الذين يسيطرون على زمام الأمور في العالم، وهوسهم الخاص بنهاية الزمان».