المنتوجات الجمالية مكون أصلي وأصيل في كل ثقافة. ليس هناك مجتمع بشري دون فنون متنوعة يمارسها في لحظات مخصوصة كما يمارس أنشطة العمل وطقوس التعبد. يكفي أن نطل على أي مجتمع قديم أو حديث لكي نلاحظ أن لديه شبكة غنية من فنون القول والحركة والغناء والرسم والنحت والتمثيل والموسيقى. فالكائن الإنساني يحتاج ثقافة العمل ليؤمن ضروريات عيشه،والثقافة الدينية ليؤمن المعنى لحياته وموته، والثقافة الجمالية ليروح عن نفسه ويحتفي بذاته . ومع كون ما يقال هنا من قبيل البدهيات كما يلاحظ إلا أن الفن ظل لفترة طويلة خارج إطار الفكر، بل وعد منتوجات هامشية أو تابعة لغيرها. نحن هنا أمام مفارقة كبرى ربما كان السبب الأهم والأعم وراءها هو عدم وضوح الوظائف الرمزية والعملية التي تؤمنها هذه الثقافة اللعبية المرحة التي يحبها الناس ويستسلمون لإغواءاتها. والفضل يعود للفلسفة التي غيرت تدريجيا هذه الوضعية لنصل إلى عصر تعد فيه الفنون أسمى تجليات الثقافة وأرقى لغات التواصل بين البشر. الحكاية بدأت مع أفلاطون الذي كان أديبا خلاقا بقدر ماكان فيلسوفا مؤسسا، ومع ذلك لم تخل أطروحاته من آثار تلك المفارقة. فالفن عنده إلهام علوي في جوهره، لكنه يظل في تجلياته العملية المباشرة منتوجات تحاكي عالم الواقع الذي هو صور ناقصة أو مشوهة لعالم المثل والحقائق المطلقة. ووحده المبدع الحريص على احترام المثل العليا يمكن أن يحوز مكانة معتبرة في المجتمع تلك المدينة الفاضلة التي ينبغي أن يتحكم العقل في كل شؤونها. لكن أرسطو سريعا ما قلب تصورات أستاذه، وبفضل الفكر الفلسفي ذاته. فالفن إبداع ينزع إلى محاكاة عالم المثل، والفنان أهم من الفيلسوف لأنه يختلق مالم يكن موجودا من قبل، وكل ممارسة فنية تنطوي على وظائف سامية حيث تعين المنتج والمتلقي على التسامي والتطهر من الانفعالات والأهواء ومن هنا تربي الفضائل بقدرما تحد من الرذائل. وعلى مدى قرون ظل الفكر الجمالي يدور في فلك إحدى الأطروحتين إلى أن بدأت أطروحات جديدة تعيد النظر في القضية كلها، و الفلاسفة الألمان هم الرواد في هذا المجال. باومجارتن دعا إلى ضرورة تأسيس علم جديد يؤسس الوعي بالجميل على البحث الجدي المنتظم وليس على التأملات الفردية العابرة. وكانط كشف عن الجذر العميق للإبداع الجمالي حينما أعاده إلى شهوة اللعب الحر المغروسة في كل بشر سوي. ثم جاء هيجل ليقدم نظرية متكاملة في هذا المجال مدارها العام فلسفة التاريخ ذاتها. فالفنون عنده من أبرز تجليات الروح السامي في الكائن الإنساني، وهي تثبت أو تتطور تبعا لما يتحقق من تحولات في الوعي الذي يدرك العالم ويعقله، والعودة إلى معطيات التاريخ والواقع تقدم الشواهد المعززة للأطروحة. فالفنون في الحضارات البدائية، أوما قبل التاريخية، تظل جزءا من الطقوس والشعائر الدينية. والفنان هو حرفي لا يسمى ولا شخصية اعتبارية له. ونظرا لمحدودية الوعي بالعالم في مرحلة كهذه يبدو العمل الفني منطويا على دلالات غامضة، ووحده رجل الدين من يحتكر التأويلات ويحدد المعاني لأنه يدرك أسرار الحياة والموت أكثر من غيره. هناك إذن حقبة فكرية "أسطورية" نتج عنها فن عظيم لكنه ليس فنا خالصا، إذ أن التماثيل والصور والنقوش والأناشيد والرقصات الاحتفالية ليس المقصود منها إبراز طاقات الأبداع وتحقيق المتع الروحية من خلال الشيء الجميل. وعندما قفز الوعي العقلاني إلى واجهة المسرح بدأت الفنون تبرز كمنتوجات ثقافية مختلفة عن غيرها ومكملة لها. أول ما تحقق هذا التحول في أثينا، وفي مرحلة من التاريخ سماها هيجل "الحقبة الكلاسيكية" حيث أصبح لكل عمل فني معنى متناسب مع شكله، ولكل مبدع اسم وهوية فردية تخصه، والناس يقبلون على هذا العمل أو ذاك واعين بأنه عمل جميل ممتع لا ينطوي على أسرار ولا يتصل بمعجزات. وإذا كانت الصروح العمرانية والتماثيل الغريبة الضخمة هي الفن السائد في الحقبة الأولى فإن فنون التمثيل والأقاويل الشعرية هي التي ستسود في هذه المرحلة. وليس الأمر صدفة. فالحوار المسرحي قرين الجدل الفلسفي، و الخطابة قرين المنطق، والمسرح، فضاء التمثيل، قرين الأكاديمية، بل إن الفرد المبدع للنص الشعري الدرامي قرين الفيلسوف. وبحسب منطق هيجل نقول إن مدينة أثينا هي "المدنية" التي أعلنت نهاية الزمن وبداية التاريخ بمجرد أن حولت الأساطير إلى موضوع للفن وللفكر فحدت من سلطانها على الفرد المجتمع والدولة (ومن يشك في أطروحتة بدعاوى المركزيات المعروفة فمعه بعض الحق وليس كل الحقيقة إذ من المؤكد أن "التأريخ" كخطاب معرفي بدأ من هناك، مثله مثل الفلسفة والطب والهندسة والجغرافيا وعلوم الفلك، ثم إن أثينا لم تكن آنذاك غربية، بل ربما كان شرق المتوسط أولى باستنسابها والانتساب إليها جغرافيا وحضاريا). وفي مرحلة ثالثة ستحدث النقلة الأهم في الوعي بالفن تنظيرا وإنجازا. فالفنون الحديثة ستنزع نحو المزيد من أشكال التخفف من ثقل المواد والمعنى الخارجي والوظائف الاجتماعية المحددة سلفا. هذه عند هيجل هي "الحقبة الرومانسية" التي تمتد من عصر النهضة إلى زمنه. وقد سماها هكذا لأن المفهوم كان شائعا فوسع معناه ليستقيم له منطق التحقيب وفق ما كان يسميه "روح العصر" كمفهوم لا يختلف كثيرا عن دلالة مفهوم "البرادايم" عند توماس كون أو "الأبستمي" عند باشلار وفوكو. وفي كل الأحوال لقد بلغ الفن أرقى تعبيراته حيث قفزت فنون الموسيقى إلى واجهة المشهد لأنها الأقرب إلى العقل المطلق أو الروح المجرد (وقد عدها الفلاسفة الأغريق صنو الرياضيات شكلا واثرا !). ثم ماذا بعد القمة ؟. السؤال يعيدنا إلى منطق المفارقة الكبرى وإن من باب آخر. لقد ذهب هيجل إلى أن الفلسفة أماتت الأساطير، لكن العلوم الحديثة ومنتوجاتها التقنية ستميت الفلسفة والفن معا. هذه رؤية كارثية لا شك في ذلك. ولنا أن نتبين السبب : لقد تغلب منطق التحقيب التعاقبي الصارم على منطق الجدل المرن المنفتح. هكذا بدا هيجل وكأنما هو يحتفى بالفنون فيما هو يشيعها. لم يتنبه إلى أن الفنون والثقافات كلها منتوجات مرنة يحكمها منطق التحول والتطور، بل وتقبل التجاور في الزمن الواحد وفي الذات الإنسانية المفردة. هذا ما توقف عنده ثيودور أدرنو الذي عد هيجل وكانط من قبله آخر الفلاسفة الكبار الذين بنوا نظريات عظيمة عن الفن دون أن يفهموا الكثير عن الفنون السائدة في عصرهم . لكن من يدري ؟. ألم يذهب كثيرون غيره، معه ومن بعده، إلى أن منتوجات العلم الحديث أصبحت تهدد حياة الطبيعة وحياة الإنسان كليهما ؟. ألم ينبهنا هيدجر إلى أن التقنية هي التي ترسم مصير البشر اليوم، وبشكل آلي فاجع ؟. ألم يذكرنا دريدا بأن كل تفكير في المستقبل لا بد أن يطل بنا على نهاية كارثية ما ؟. وفي كل الأحوال لا بد من الثقة فيما تبقى من ذلك الوعي الإنساني الذي دشن التاريخ واحتفى بالفن لكي لا نستسلم لفكر الموت الذي يهددنا بأقبح أشكال الحياة.. وأعني الحياة في ظل الخوف الذي يقتل الإحساس بكل فن جميل!.