أظن أن من الصعوبة طرح سؤال العزلة على مفقود، كما أن السبب الذي يدفعك إلى العزلة قد لا يكون إلا نتيجة لسبب آخر لتظل تحفر وراء سلسلة من الأسباب دون الوصول إلى قناعة بوجود سبب جذري ووحيد للعزلة. لكن لنقل في البدء أن العزلة تتسع كلما ضاق الحضور، كما لو كانت بمنطق النفّري هي الرؤية التي تتسع لتضيق العبارة. نأي يتعمّق لأن الاقتراب غير ممكن. تدخل العزلة لتبحث عما يستحيل خارجها. طريقة في الوجود ربما مثلما هي طريقة في الغياب. تنسحب من مواقع لتشغل مواقع أخرى، فالعزلة ليست برجاً ولا قبواً، إنها محلّك الشخصي الذي تؤثثه وحيداّ في الصخب. ومن البداهة أن تنسحب إلى العزلة عندما تشعر بفقدان الذات في الحضور، فماذا يظل إذا خسرتَ نفسك وربحت دوراً في اللعبة؟! ثم هل تلعب بأدوات غيرك وشروطه ولا تكون مهرجاً أو بالكاد فزاعة في حقل يحترق؟! نعم، العزلة مزج من الجبر والاختيار، تُعزل وتَنْعزل، تنطرد لتعرف نقصك الذي لا ينكشف بالحضور، مكتوب عليك الغياب لأن الحاضر جاف على السطح. والعزلة مختبر لا يتسع أكثر من واحد، وأنت جرّاح نفسك في ليل حياتك الطويل. عزلة عقل يحدس ويتأمل السياقات بلا حارس، يخترع مشرطه الخاص للمفاهيم، يقيس الفارق بين ما هو شرقي وما يصبح غربياً بضغطة زر، يتفحص أدوات بناء مستهلكة لا تصلح إلا للهدم، عقل لم يكتشف تلك الحتمية القدرية في تكاثر المستنقعات، ويعد التقدم خدعة بتكنيك رأسمالي مثلما أن الجمود إيمان بمخالب لا مرئية، عقل متناقض كلما وجد مسلّمة تعلق بضدها. عزلة روح تقشِّر أوهامها طبقة طبقة ولا تجد المحرك للهباء، تحيا لتصارع بلاهة السكينة وصعوبة الأسر، تبحث في احتمالات لا معقولة عن حيوات أخرى في القبل والبعد. عزلة جسد بحواس تحتاج للتجربة، يندمج في المتخيل ليصير خفيفاً بهيئة شبح، يجرب حيلاً كثيرة ليبقى، جسد بعين متورطة في الرؤية وتورط معها الحواس في سؤال العيش كمكابدة يومية، جسد بأنف مريض حساسيته مزمنة، تثيره لقاحات عدوانية في الهواء، ويقاوم بنوبات عطاس مع السعال وحالات زكام يومي ليصير التنفس صراعاً أيضاً مع الغبار والعوادم وعطور اللحظة الرخيصة، جسد يتذوق العيش بتقشف لأن الرفاهية مسمومة والتوازن طموح بوذي لمحاولة التكيف مع طبيعة حياة صحراوية لا يمكن أن تُعاش إلا كتُهمة. والعزلة تمنح الحرية لمن يتقن الشرط، ومن شروطها القسوة، آن الظل أولى من الضوء، والعمق ضد للسطح، تشترط العزلةُ قفلاً قبل المفتاح، تشترط معرفة لئلا يصبح المعزول مسخاً يحيا نادماً متفجعاً على أدوار كان سيلعبها في الظاهر لو مُنح فرصة التوقيع كموظف في دفاتر الحضور. والشخص في العزلة يمنح نفسه القيمة التي لم يجدها في الحضور، ليس قديساً ولا نظيفاً إلا من وساخة القاعات والأضواء ومعامل الإيديولوجيا ومصانع الترويج. تنعزل أخرساً عندما يصبح الكلام سلعة في السوق. عزلة البسيط الذي لا يريد أن يظهر منفوخاً في الصورة، ولا مستأجَراً في معرض الذوات المستعملة. عزلة الصمت ليترسّب الألم، وينجو المعزول من طيش اللحظة وجنونها، صمت مفتوح على عصب الآني، على الحلمي وكوابيسه، على الذكرى وانثيالاتها البطيئة. تنعزل لتشاهد المسرحية هزلية دون أن تضطر لشتيمة المخرج، وتنعزل لترى كم العالم مهجور من كثرة الزحام، وتنعزل لئلا تكون بطلاً ولو في زريبة. هكذا الإيمان بالعزلة مفتاح للشك، قناعة بأن ما من متاهة تكون حقيقية في صحبة أحد. عزلة في الشارع الذي يتزين بملصقات الدعاية والترويج، عزلة في الوظيفة لتشعر كم اللقمة مُرّة وكم الضرورة قيد، عزلة في مدينة بشرايين من الإسفلت، مدينة بأمان مشروط، حيث تختبر الوجود في زمن يتجوّف على نفسه، تلهث معداً التمدّن صياغة بدوية لتوجد مُعلّباً عند الإشارات الضوئية وعلى الأرصفة الخالية، في الملاهي الكهربائية، وتحت الجسور وفي المطاعم والمستشفيات، عزلة اللهاث بمشاوير طويلة بحثاً عن العدم، لهاث فارغ بين البيت والمسجد والبقالة والعمل، لهاث بلا سيرة ليغادر المعزول آخر أيامه كورقة بيضاء في أرشيف المصير الأسود. هكذا تؤمن بالعزلة هامساً لنفسك: أنا أغيب إذن أنا موجود. مع ذلك لا تدعي العزلة، فليس مطلوباً أن تدلَّ الآخرين عليك، إلا إذا كنت بضاعة أو تمثالاً للفرجة. تحيا وكفى، تجارب في طريقة الوجود دون حلول نهائية، فإذا كنت تنكر الحضور مشروطاً، فيجب أيضاً ألاَّ تكون العزلة حلاً دُغمائياً يأتي بمثابة رد فعل ساذج على حضور لا يُعوّل عليه. الأهم ألاَّ تكون محلَّ رعاية، تُساق مع القطيع بالعصا. أما الشتات والتيه والضياع فحالات طبيعية إذ كل بوصلة مضللة، وطريقك شاق وعسير تقطعه وحيداً. * شاعر سعودي