في كتابه (الوجود والعدم) أصّل الفيلسوف الألماني جان بول سارتر لمذهبه الوجودي، كان جزء من ذلك قائما على مفهوم أن الإنسان هو أصل الوجود وأنه الكيان الذي ينبغي أن يسخَّر العالم – بجملته – من أجله. وفي مُؤلّفَه ( الزمن الوجودي ) جرّب عبدالرحمن بدوي أن يؤسس لفكر وجودي عربي، فقد كان بدوي يرى أن بالإمكان أن تكون هناك وجودية مؤمنة تتوازى مع وجودية سارتر الموغلة في الإلحاد. وبعيدا عن جدلية الإيمان والكفر، فما أرمي إليه من استدعائي لمصطلح الوجودية هو الوصول لفكرتها الأساسية والمبنية على التأكيد على (وجود الإنسان ) فهو محور العيش وينبغي أن توظف جميع مكونات العالم لأجله. فهل كان محمود درويش وجوديا دون أن يعيَ أنه كان يمارس وجوديته؟ كفلسطيني، كان درويش من خيرة مَن جسد مفهوم ( الفلسطينية ). فهي التشرذم والتشريد ومعاناة الحروب وحياة لا إنسانية يعيشها طفل في مخيم ما. محمود درويش يتجسد في شعره لسان مواطن فلسطيني يرغب في إعلان ذاته وتأكيد وجوديته فنجده في ( بطاقة هوية ) يصرخ :- سَجّلْ أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألفا و أطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف فهل تغضب؟ سَجّلْ أنا عربي وأعمل مع رفاق الكدح في محجر وأطفالي ثمانية أسلّ لهم رغيف الخبز و الأثواب والدفتر من الصخر ولا أتوسل الصدقات من بابك ولا أصغر أمام بلاط أعتابك و لكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي حذار حذار من جوعي و من غضبي وهاهو وطن ندعوه فلسطين يبحث لنفسه عن تشكل في ظل اختطاف عالمي لأحلامه في الوجود فيعلن وجوده عشقا على لسان درويش: خذيني تحت عينيك خذيني لوحة زيتّية في كوخ حسرات خذيني آية من سفر مأساتي خذيني لعبة.. حجرا من البيت ليذكر جيلنا الآتي مساربه إلى البيت! تلك القضية المثقلة بالصراع والاقتتال – داخليا وخارجيا – هناك الطموح وهناك التآمر وهناك من تحركهم المصالح ويسيرون جنبا إلى جنب مع الوطنيين الشرفاء. ولكن سيرحل المرجفون وستولد فلسطين من جديد شريفة ورمزاً للطهر والقصيدة : كانت أشجار التين وأبوك.. و كوخ الطين و عيون الفلاحين تبكي في تشرين! المولود صبي ثالثهم.. والثدي شحيح و الريح ذرت أوراق التين ! فهل ستكون لنا عودة وهل سيكون للفلسطيني وجود على أرض الواقع كما هو خالد في الفكر الجمعي العربي؟ رحل درويش وقلبه موجوع ، رحل درويش وهو مازال يحمل في ذهنيته الحلم .لا..لا.. لم يكن مجرد حلم ! كانت صورة ذهنية مكتملة لدولة قابلة للنشوء. لكن من سيتبنى تحقيق هذه الفكرة الناضجة . فالجميع يراهن على الآخر. في حين أن الآخر لاتحركه سوى مصالحه الشخصية ومصالح الحليف الإسرائيلي. عربيا لغة الخوف وروح الانهزامية اللتان زرعتهما فينا حرب 48 ونكسة 67، التي لم يفلح نصر أكتوبر73 في إزالتهما، هذه الروح المثقلة بالهم والحزن هي التي بحاجة إلى أن تُجتث. وأن تحل مكانها روح شابة متوثبة لإعادة إحياء الحلم العربي. فالحل لايمكن أن يكون – على المطلق – إلا عربيا خالصا.