كنت أتنقل مسرعة بين ممرات أحد المحلات التموينية الكبيرة، أمسح بنظري الأرفف على عجل بحثاً عن رف معين، إلى أن وصلت لرف الألبان فسحبت قارورتين من الحليب وعدت لأبنائي الصغار، حيث وقف أخوهم الأكبر ممسكاً بعربة التسوق يهزها في محاولة منه لإشغالهم ومداعبتهم للتخفيف من وطأة (الزن) التي انتابتهم حين دقت ساعتهم البيولوجية على مؤشر الجوع، فاستمروا بطلب الطعام أثناء فترة تسوقي (بأنين) متواصل لم يتوقف، إذ أن هذه السن لا تعترف إلا بتوقيتها الرسمي الخاص بها، فتحت الحليب ووضعته في أيديهم بعد أن ناولت كل واحد قطعة من علبة بسكويت كنت قد سحبتها في طريقي من فوق أحد الأرفف، ما إن قضمها الصغار حتى سكنت أنفسهم، فتنفست الصعداء وأخذت أكمل تسوقي معاتبة نفسي لتأخري على موعد عشائهم الذي داهمني مبكراً ذلك اليوم المكتظ بالمهمات، أخرجني من بين أفكاري صوت جلبة أطفال فالتفت لأجد نفسي بجوار إحدى الأمهات تمر بنفس السيناريو المربك الذي كنت أعيشه منذ لحظة، حيث كانت منهمكة في نفس الطقوس، نظرت إليها بابتسامة رأفة مساندة لموقفها في طريقة إطعام الأفواه الصغيرة بهذه الطريقة الاضطرارية، ولكن لم تبادلني المرأة الابتسامة بل أسدلت غطاءها سريعاً تخفي وجهها، وكأنني لمحتها في تلك اللحظة تدس كيساً من الخبز في ردائها الداخلي داخل العباءة، أعطتني ظهرها وأخذت تطعم الصغير الذي يجلس في مقدمة العربة لقمة مغموسة بالزبادي، كان هناك ثلاثة أطفال في عربة التسوق في أعمار متقاربة يجلسون فوق بعض المعلبات مادين رؤوسهم باتجاه الأم يلعقون شفاههم يطلبونها (وأنا يا أمي.. أنا يا أمي..) فأخذت المرأة تفتح مغلفات الكرواسان وتغط كل قطعة في علبة الزبادي التي كانت تحملها باليد الأخرى وتناولها لهم واحداً تلو الآخر. حز في نفسي منظر الأطفال وهم ينتفضون من شدة الجوع بعد أن لامست اللقمة أفواههم وهي تهمس لهم (شوي.. شوي) فشعرت تلك اللحظة بوخزات تأنيب الضمير لتأخري عن موعد عشاء صغاري، مع أن طقوس فتح الأطعمة من قِبل بعض الأمهات في المحلات التموينية وإطعام الصغار بات مألوفاً جداً، حيث اعتاد الناس على ترك المغلفات الفارغة في عربة التسوق مع بقية المشتريات ليتم دفع ثمنها فيما بعد. أكملت طريقي بعد أن احتل ذلك المشهد جزءاً من تفكيري، فعاتبت نفسي للمرة الثالثة «كيف أتهم المرأة بالسرقة وأنا منذ دقائق كنت أفعل بالمثل حين أطعمت أطفالي»، بعد دقائق صادفت نفس المرأة تدفع العربة التي كان يجلس فيها الجميع بهدوء يشربون الحليب ولم ألمح أوراق المغلفات ولا المعلبات في عربتها، بل تجاهلت الأمر إلى أن انتهى بي المشوار أمام صندوق المحاسبة وانشغلت في وضع المشتريات وإعادة جبل من الحلويات التقطه أطفالي أثناء فترة التسوق، وحين رفعت رأسي لمحتها وهي تحمل الصغير على كتفها وتؤشر بيدها الأخرى لأحد الأطفال خارج المحل على مكان معين يقف فيه اثنان من أبنائها، وبهدوء تسللت المرأة للخارج صفرة اليدين لتكتمل أجزاء المشهد الذي رأيت ويتحول إلى مرارة اعتصرت قلبي، فاستحضرت مشهد الأطفال مراراً وتكراراً وهم ينتفضون حين تلمس اللقمة جوفهم، لملمت أغراضي وخرجت مسرعة لتسقط دمعة لم أستطع مواراتها أمام أبنائي الذين تساءلوا سريعاً «هل تبكين يا أمي؟» لأرد عليهم كعادتي «لا.. هذا من البصل»، وتمنيت ذلك اليوم أن يقدم كل محل وجبات مجانية لمن لا يقدر على ثمنها. وأستطيع أن أقول إن هذه الأمنية تحققت بعد سنوات قليلة حين وصلتني صورة مخبز يضع لوحة كتب عليها: (من لا يستطيع دفع الخبز فليأخذه مجاناً)، لأكتشف أن (مخبز نعمة) في جدة بعث برائحة الرحمة في تلك الصورة إلى الأحساء ليعجب بها مالك (مخابز خبازي)، لينتهي به الأمر واضعاً نفس اللوحة التي تم اقتباس فكرتها الطيبة من أحد المخابز في تركيا، لتتنقل رائحة الخبز بنكهة الرحمة بين الناس في نموذج رائع على التكافل الاجتماعي وفعل الخير تأكيداً لقوله عليه الصلاة والسلام (الخير باقٍ في أمتي إلى يوم القيامة)، خاصة وهذه الآونة من الزمن كثر فيها التسابق على جمع المال بأي وسيلة بالنصب أو بالسرقة أو بأكل مال اليتيم والمستضعفين وبغلاء الأسعار، ليجبر ذلك عدداً من المواطنين على العيش بموازاة خط الفقر وتحته وفوقه بقليل، فمن يعيش تحت خط الفقر يقضي معظم أيامه جائعاً ينتظر من يطرق بابه ليقدم له حسنة تعينه على سد رمق أبنائه، إذ يعتمدون في الطبخ على الدقيق كوجبة أساسية وقتما تتوفر، وحين يقرصهم الجوع لمرحلة لا يحتمل فيها الانتظار يضطر بعضهم لسد صوت (الكافر) في بطون صغارهم بطريقة التسوق، والناس الذين يعيشون بموازاة الخط هم الذين لا يملكون سوى مسكن متهالك، دون دخل شهري محدد، بل يعتمدون على ما يقدمه لهم الضمان وبعض أصحاب الأيدي البيضاء المعروفين لدى مسجد الحي، حيث يتكفل بعضهم بطلبات بعض الأرامل والمطلقات وأهل المساجين، فتارة يوفرون لهم من مالهم الخاص، وتارة يجمعون مع زملائهم في العمل من أجل توفير احتياج تلك الأسر، وأغلب هؤلاء الخيرين أنفسهم يعيشون فوق خط الفقر بقليل ويسمون أنفسهم (ميسوري الحال)، ولكن سرعان ما يتوارون خجلاً عن الأنظار في منتصف الشهر حين تسلب الأقساط والقروض ما بقي من الراتب البسيط بعد تسديد الفواتير ومتطلبات المدارس، ليعيشوا ما تبقى من الشهر بموازاة الخط اللعين، وتعد شريحة كبيرة من الناس من هذه الفئة ولكن لا تعرفهم من شدة حيائهم، فهل نتخيل كيف يُطعمون صغارهم باقي الشهر؟ ندعو لأصحاب المخابز بالغيب بأن يجزيهم الله على حسن صنيعهم ويضعه في ميزان حسناتهم أضعافاً مضاعفة، وكم أتمنى أن يتبنى مزيد من الناس مبادرة (الخبز بنكهة الرحمة) وينشرها ويُفعّلها في المطعم، والمقهى والسوبر ماركت، لكي ينتشر الفعل الطيب بين الناس، هذه المرة في انتظار عبارة أطول، ثوابها أكبر عند الله (إذا لم تستطع أن تشتري وجبة فمد يدك وخذ واحدة فنحن نقدمها لك بالمجان).