الثقافة العربية اليوم هي ثقافة مقلدة في الأعم الأغلب. وقد حُبست عيون هذا التقليد على ناحية الغرب لا سواها، برغم أن في الشرق تجارب حضارية لا تقل أهمية. وليتها إذ قلدت، أنها استمرت مع المشهد الغربي بحيث يكون المثقف العربي معاصراً فعلاً للمشكلات الغربية، وبحيث يصل معها لعمق مشكلاتها وبحيث تدرك جيداً هذه المعضلات التي تؤذن بانهيار الحضارة الغربية. الحقيقة المرة هي أن العربي لا يريد أن يتجاوز جحر الضب الذي خرج منه الغربي منذ زمن، بل يريد أن يخوض تجربة جحر الضب لأنه يتصور أنها ستكون تجربة ثرية! لقد اختار المثقف العربي حقبة تاريخية هي حقبة عصور التنوير في تاريخ الفكر الغربي وبقي فيها لا يريد أن يغادرها. لماذا؟ لأنها تخفف من درجة الإحباط الذي يشعر به، وتظهره بصورة البطل، والجوهرة التي لا تكتشف، لكن سيتم اكتشافها فيما بعد. عندما أنظر في هذا الكم الهائل من كتب مترجم الفلسفة هاشم صالح، أجد هذه الروح التي تريد أن تبقى في عصور التنوير ولا تريد أن تخوض في مشكلات الحضارة الغربية اليوم. من آخر ما قرأت لهاشم صالح، كتابه: (معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا)، وهو كتاب لا يحمل جديداً، بل يستطيع من قرأ كتب صالح السابقة ومقالاته التي يكتبها في الصحف السعودية منذ عشرين عاماً، أن يقول إن المادة هي نفس المادة مع تعديلات هنا وهناك وتجميع. العجيب في أمر هذا الكتاب أن فيه فصلاً كاملاً اسمه (هيجل عملاق الفلسفة) بحيث حشره صالح من ضمن فلاسفة التنوير برغم أن هيجل هو أحد أكبر دعاة الحكم المطلق والجبرية وهو من أكبر أعداء الحرية كما يفهمها الغربي المعاصر. ولا عجب في ذلك فالمثقف العربي لديه قدرة على لي أعناق الحقائق لكي توافق ما يريد حتى وإن خالف في ذلك المسلمات العلمية والحقائق التاريخية. هاشم صالح هنا يمثل أنموذجا ممتازاً للمثقف العربي الذي لا يريد أن يغادر عصر التنويريين الغربيين برغم أن حقبة التنوير والحرب مع رجال الكنيسة الظلاميين قد مضى على نهايتها ما يقارب القرنين من الزمان، وقد دخلت الثقافة الغربية بعدها -بعد تنحية الوحي والركون لمادية صرفة- في دهاليز مظلمة قتلت الروح ودمرت العلاقات الإنسانية وسارت بالأخلاق نحو الحضيض. لكن صالح لا يريد الخوض في هذا الموضوع. يريد فقط أن نبقى في زمن شعرت فيه الثقافة بشيء من النشوة والانتصار وإحراج الخصم والانتصار عليه. مع أن هذه القصة برمتها إنما حدثت في الغرب، وفي ظروف زمانية ومكانية تختلف كل الاختلاف عن المشهد العربي. هذه الرغبة في القبوع في زمن التنوير والاستمتاع بقصصه وقصائده، إنما تعكس حالة الخواء والعقم والإفلاس الذي تعيشه الثقافة العربية اليوم بحيث نراها تستميت للحصول على «رجيع» حالة عاشها قوم آخرون!