أشرت في المقالين السابقين إلى فتاوى تحريم تهنئة غير المسلمين بمناسباتهم وإلى فتاوى التحريم المماثل لتهنئة المسلمين ببعض مناسباتهم. ويقوم التحريمان على أصل واحد يتمثل في «تديين» الحياة كلها. وهو ما يعني إضفاء الصبغة الدينية على شؤون الحياة كافة، والنظر إليها من خلال بعض التأويلات «المتشددة» للدين. وقد أشار أوليفييه روي، المتخصص في الشؤون الإسلامية، في كتابه «الجهل المقدس» الذي أشرت إليه في مقال سابق إلى أن هذا التديين للحياة الذي يفصل بين الثقافة والدين ظاهرة شائعة الآن في الأديان التوحيدية الثلاثة كلها وفي غيرها من «الأديان» والمذاهب «الدينية». ومن النتائج اللازمة عن هذا التديين العداءُ الجذري للمخالف ديناً أو مذهباً، وإقصاؤه ومحاولة «دعوته» للخروج من «دينه» أو مذهبه لينضم إلى دين من يدعوه أو مذهبه. ونتائج هذا التديين واضحة في سياقنا الديني والثقافي والاجتماعي. ويترتب عليه كثير من المظاهر التي يشكو مجتمعنا منها. وليس تحريم تهنئة «الكفار» بمناسباتهم، وتحريم تهنئة المسلمين بعضهم بعضاً بمناسباتهم إلا أمثلة لها. ومن نتائج هذا التديين الأخرى الغفلةُ عن واقع العلاقات الدولية التي تسعى الدول المعاصرة إلى تعزيزها. لذلك فإن الفتاوى التي تحرم تهنئة غير المسلمين بمناسباتهم تخالف الممارسة السياسية لبلادنا في علاقاتها مع دول العالم. فتلتزم المملكة بالعلاقات التي تمليها عضويتها في الأممالمتحدة والمنظمات التابعة لها، وهي التي تسعى إلى التعاون بين الثقافات كلها والتعايش بين الشعوب جميعها في سبيل الخير العام للبشرية وتنمية العلاقات الجماعية والثنائية الحسنة بينها. وتقوم المملكة، بناء على هذه العلاقات، بإرسال برقيات التهنئة بالأعياد الوطنية لتلك الدول، ويحضر بعض المسؤولين احتفالات السفارات الأجنبية بتلك الأعياد في الرياض. كما تخالف تلك الفتاوى الجهود التي تبذلها المملكة في إقامة مراكز الحوار مع الأديان الأخرى، حتى غير التوحيدية، وتنظيم مؤتمرات الحوار الدورية معها، في مختلف القارات. ويعني هذا أن المملكة تحترم معتنقي تلك الأديان ومناسباتهم وأعيادهم والتهنئة بها. والغرض من تلك الجهود كلها دعم التفاهم بين «أتباع» تلك الديانات والمذاهب وتقليل فرص الشقاق والحد من إثارة المشكلات بيننا وبينهم. وكان المنتظر من مصدِري تلك الفتاوى ألا تخالف فتاواهم هذا النهج الحكومي الساعي إلى دعم السلام العالمي وتقديم صورة إيجابية عن المسلمين عامة، وعن المملكة، وعن الإسلام كما يمارس فيها خاصة. ولا يخفى على مصدري تلك الفتاوى الحملةُ الضارية التي تشنها جهات عدة ضد التوجه الإسلامي الممارس في المملكة وتصويره على أنه «إقصائي» معادٍ للأديان والمذاهب كلها. وتعرِّض هذه الحملة المستمرة المملكة لكثير من العداء وتشويه السمعة. ومن نتائج «تديين» الحياة كلها التوسع في معنى «البدعة». فقد صارت تشمل ما يجب أن تكون عليه الحياة الطبيعية للإنسان، ومن أمثلته تحريم تهنئة المسلمين ببعض المناسبات السنوية. ويعني التوسع في مفهوم البدعة الحكم بالتحريم على أي شيء لم يكن موجوداً في العصر النبوي والقرون الثلاثة «المفضَّلة». ويُعتذَر أحياناً عن هذا الفهم الواسع للبدعة بأنها مقصورة على ما يتصل بالأمور الدينية. وهذا اعتذار غير صحيح. وأقرب مثال على عدم صحته تمنُّعُ المؤسسات الدينية الرسمية عن الاستئناس بالحساب الفلكي لإثبات أوائل الشهور الهجرية احتجاجاً بأنه مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الرؤية البصرية المباشرة. ويتجاوز بعض المتمنِّعين هذا القول إلى الادعاء أنه بالاستئناس بالحساب الفلكي يعني القول بأن الله لا يعلم ما سيحدث في المستقبل من وسائل تقنية تعين على تحديد أوائل الشهور، كما يعني اتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بالتقصير في إبلاغ الرسالة! وكان الأولى أن يميز، فيما يخص مفهوم البدعة، بين ما وردت به النصوص الصحيحة في أمور العبادات والمعاملات وإجرائها على الوجه الذي وردت به، والأمورِ الأخرى الكثيرة التي جرت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على وجه معين بسبب ظروف الحياة السائدة آنذاك. وهذه الظروف متغيرة يمكن أن توجد في عصر على وجه وفي عصر آخر على وجه آخر، أو ربما لا توجد، أو يمكن أن تحدث أمور لم تكن موجودة في العصور المتقدمة. ويوجب هذا أن يكون الباب مفتوحاً للتعامل مع الأمور الجديدة باستيعابها والتعامل معها بإيجابية بدلا من تبديعها مباشرة. ومن أوضح نتائج تديين الحياة كذلك عدم فهم الطبيعة الإنسانية السوية. ومن أهم الأمور التي تحدث باستمرار في الحياة الإنسانية أن يخترع الناس المناسبات الاحتفالية لكسر رتابة الحياة ومَلَلها. ويعرف الناس جميعا ما كانت عليه الحال قبل استفحال ما يسمى بظاهرة «الصحوة» في بلادنا. فقد كان الناس يمارسون كثيراً من أنواع الفرح في المناسبات التي يختلقونها دائما لملء فراغ حياتهم، ولتمتين العلاقات الاجتماعية بينهم. ومن ذلك الترفيه في حفلات الزواج والختان واحتفالات المواسم الزراعية، وغير ذلك. ويعرف السعوديون جميعاً أن تديين الحياة في العقود الأربعة الماضية قضى على تلك المظاهر المصاحبة للمناسبات التقليدية. وهو ما أحال تلك المناسبات إلى أعباء ثقيلة على من يقيمها وعلى من يلبي الدعوة إليها. إذ لم يبقَ فيها إلا التكاليف المالية الباهظة لإقامتها، وتكلُّف الحضور إليها مجاملة والمغادرة السريعة بعد التهنئة بها، أو التململ انتظاراً لتقديم الطعام! وأدى توفر الوقت وتزايد ضغوط الحياة ورتابتها في الوقت الحاضر إلى أن يخترع الناس بعض المناسبات الجديدة، ليس تحدياً للتعاليم الدينية بل قصداً للترفيه عن أنفسهم واستغلالها للخروج من العزلة التي فرضتها تعقيدات الحياة المعاصرة. ومن تلك المناسبات الجديدة «أعياد الميلاد» التي يقصد بها إدخال السرور على الأطفال، أو الاحتفال بذكرى يوم الزواج، وغير ذلك. ومن أوضح الأدلة على ضيق الناس بخلو الحياة في بلادنا من الفرح والبهجة أن ملايين السعوديين يترقبون كل إجازة مهما كانت قصيرة ليهربوا إلى خارج المملكة؛ فتغص بهم المنافذ البرية والمطارات ومراكز التسوق الخارجية بحثاً عن الترفيه وهرباً من تجهم حياتنا التي تخلو من كل مظهر للترفيه والفرح تقريباً. ويملي هذا الوضع غير الطبيعي على المفتين الأفاضل الخروج من الفتاوى القديمة التي أوحت بها ظروف مختلفة إلى تأمل الحياة المعاصرة من حيث العلاقات الدولية وتبدل العلاقات بين المسلمين وغيرهم، وتبدل حياة المسلمين المعاصرين أنفسهم التي لا تسهم الفتاوى التي تنشأ عن تديين الحياة إلا في زيادة كآبتها.