في الأردن العربي الجميل، سمعت ذات مرة مثلاً أعجبني، وهو أن: كل شخص في عقله مدينة. وهو يقال عندما يصدر من شخص ما تصرف غريب أو غير متوقع. هذا المثل له بعد فلسفي عميق، فعقل الإنسان الذي فضله به الخالق عز وجل على كل الكائنات الحية، هو معقد لدرجة أنه لا ينبري لفهمه إلا أكثر الناس عبقرية وذكاءً ليسعى إلى عقل العقل أو الغوص عميقاً للتعرف على الكيفية التي يفكر بها عقل الإنسان ويحكم على الأشياء. ومن أكثر العقول غرابة، هي عقول الطغاة وإخوتهم الصغار المستبدين. فرغم كل ما يجدونه من صعاب في الاستمرار في أداء عملهم بسبب ما للناس من مطالب ومظالم عندهم فإنهم مواصلون بنفس الدرجة من شهوة التعلق بالحكم. فمن خلال مشاهدات الثورات العربية في السنتين الأخيرتين فقط، التي أظهر فيها الطغاة كثيرا من التشبث والتمسك بالسلطة، كما فعل معمر القذافي وعلي عبدالله صالح وبشار الأسد الذي لا يزال متعلقاً بها، يخرج الشخص منا بتصور أن داء السلطة هو من أشد الآفات النفسية التي تصيب الإنسان فتؤثر على حياته وحياة غيره من الأقربين والأبعدين. ومما يحيرني في فهم نفسية الطغاة: ماهية اللذة التي يجنونها وهم يشاهدون كل ذلك الكم من العداء والبغضاء لهم في أوطانهم وخارجها. وكيف وصل الحال ببعض الناس أن يقوموا بقتل غيرهم من أجل ضمان استمرارهم في لذة، لم تكن مقررة لهم أن يتمتعوا بها بهذه الطريقة! كيف وصل الحال ببعض الناس أن يتمكنوا من النوم ملء جفونهم وقد جروا على غيرهم متاعب ومشكلات لا تحصى؟! الإشكال الذي يحصل لدي وقد يشاركني فيه غيري في فهم لذة الحكم هذه أنها ليست لذة ملحة عند الإنسان، فلذلك هي لا ترتقي لمستوى الحاجة. فمثلاً حاجة الإنسان للبقاء أو حاجته للغذاء أو حاجته للشعور بالأمن هي لذات متقدمة جداً في الأولوية لدى كل الإنسان، فعندما يصل لها فإنه يجد في نفسه الطمأنينة والرضا والسعادة أيضاً. بيد أن لذة الحكم وما يتبعها من إحساس بالوجاهة والسؤدد والتميز عن الآخرين، هي لذة غير مرتبطة بالبقاء البشري، أي أن الإنسان لا يفقد حياته بفقدانها، ولكن رغم ذلك تجد أن البعض لديه الاستعداد الكامل أن يدفع كل اللذات السابقة عليها من أجل الاستمرار بهذه اللذة. والمثير في الأمر أنه إن خسر الساعي لهذه اللذة، أي لذة الحكم، في تصارعه مع الآخرين، فإنه قد يفقد كل اللذات الأخرى بل قد يفقد روحه التي تتمتع باللذة. ولو فككنا هذه اللذة، لو جدنا أنها أحياناً تنحصر في مربع شهوة صغير جداً لدينا، وهي شهوة إعطاء الأوامر. فمثلاً بعض الناس تجد لديه كل عناصر الرضا ولكنه لا يجد راحته وأحياناً لا يجد شخصيته إلا وهو يعطي الأوامر، ويفرح برؤية نفسه متقدماً على الآخرين ومتحكماً في مصائرهم. فيظن داخل نفسه أنه حاز على لذة اللذات وأس السعادة! من وجهة نظري لو حسب الطغاة أبعاد السعادة بشكل صحيح، وأستوعبوا مفهومها الحقيقي لتضاءلت أمامهم كثير من الشهوات. إن السعادة هي المآل الذي يسعى له كل إنسان في هذه الحياة. وهي كما أتصور مزيج من الرضا المادي والمعنوي الذي متى ما تحققت أسبابه وشروطه تحققت للإنسان السعادة التي يرجوها. ورغم أن درب السعادة واضح بل وميسر للبعض بشكل كبير، فإنه للأسف الشديد لا يصل بعض الناس للذة السعادة، لأنه ليس لديهم مقدار كاف من الحكمة أو بعبارة أخرى ليس لديهم النضج العقلي والوجداني الوافي، الذي يمكنهم من وزن الأمور في ميزانها الصحيح وتحقيق المقاصد العليا دون إفراط أو تفريط. ولو حسب الطغاة أمورهم من هذا المنظار لتضاءلت هذه الشهوات أمامها. التصور المشوه لدى البعض عن ارتباط السعادة بالرئاسة، يقوم على منطلق أنه متى ما وصل الإنسان إلى الرياسة فإنه سيضمن الحصول على كل اللذات الحسية بالذات وبشكل دائم، فكل ما يريده الشخص من شهوات سيجده حاضراً بين يديه. وفي مركب المستبدين الكبار تجد هناك مستبدين صغارا يسعون بنفس الطريقة للوصول لهذه اللذة، ومتخذين بذلك من مستبديهم الكبار نبراساً لهم. إن النظر في حياة أي طاغية يعطي استنتاجا بأنهم كانوا يفتقدون للحكمة الحقيقية في إدارة أمورهم فضلاً عن أمور شعوبهم، لكنهم ظلموا أنفسهم عندما تسلموا مقاليد السلطة. فباءوا بإثمهم وإثم غيرهم. ولم يحققوا السعادة لأنفسهم ولا لغيرهم. وخسروا وأخسروا غيرهم معهم. وبعد أن يزولوا عن السلطة، تكتشف الشعوب أن حقيقة مواقع بعض قادتهم لا تعكس مؤهلاتهم العلمية أو العملية أو الفكرية. وستدرك أنها كانت تقاد من أشخاص في غاية البساطة وأحياناً السذاجة، ولكن «أُبّهة» السلطة ورسمية مواقعهم وقلة الاحتكاك الشعبي بهم يغطي كثيرا من عيوبهم وسذاجتهم.