لم تعدْ عبلةُ محتاجةً وقومُها إلى حماية عنترة للحيّ ولا للقبيلة، فقد اكتشفنا بأن تلكم العبْلة والعنترة من إنتاج ليالٍ من ليالي القصور العباسية وعصور الانحطاط.. ولم تعدْ رجولتُه تكمن في فروسيته وشجاعته وشاعريّته التي حُبِكتْ في ذات القصور.. كما أنّ اللّيلاوات – عامريّتهن وأخْيَليّتَهنّ – لمْ يعدنَ محتاجات إلى عذرية أيّ قيس مِمَّنْ صاغتْها تلكم الليالي.. صرنَ جميعا يحتجْنَ إلى استعادة عفّةِ بعض الرجال التي سلبها مجردُ حصول المرأة على مرتب من عملها وكدحها.. لقد انتَهَكَ عملُ المرأة ومرتّبُها لدينا عفّةَ كثير من الرجال، فتنازلوا بشكل أو بآخر عن مصطلحاتهم التي قمعوا بها المرأة عبر تاريخهم من قوامة وحبّ وجوهريّة مصونة وعشق وإيثار وفداء وعذريّة و…و… فلو بُعثَ عنترةُ والقيوسُ العربية الشهيرة، وشاهدوا بعض عناتر اليوم وقيوسه لارتدُّوا مباشرةً عن عروبتهم وشيمهم التي صاغها تاريخهم العربي الحقيقيّ الذي كنا نعرفه في جزيرتهم، أو صاغوه نظرياً في أماكن صياغة التاريخ المزيَّف.. ولأنني أزعمُ أنني أعرف بعضاً من بقايا العروبة (على الأقل جينيًّا)، أشعر بالخجل عندما أسمع عن استثمار بعض من نطلقُ عليهم رجالاً، استثمارهم بناتهم وأخواتهم وزوجاتهم العاملات استثماراً نقديًّا تجاريًّا دنيئاً. فلا حقَّ للمرأة لدى بعضهم في مرتّبِها الذي تجنيه نتيجة عملها وجهدها الذي قد تقطع من أجله يومياً مئات الكيلومترات مع السائقين، الذين تعاني منهم خلوةً إجباريّة في مجتمع شاذّ لم يزل رافضاً أنْ يستوعب الفرق بين ركوبِ المرأةِ حمارَها وركوبِها سيارتَها..هي تعاني دفع كثيرٍ من هذا المرتب أجرةً لسائق الخلوة الإجبارية، وتعود مدبِّرة ومديرة لبيتها وبنيها وزوجها وأهلها، ليأتي العَنْتَرُ الشّهم والقيْسُ العذريّ على بقية مرتّبها آخر الشهر دونَما خجلٍ من ذاته ولا من رَبٍّ أو عباد! هذا جانب من جوانب بعضٍ من بقايا عناترنا وقيوسنا الذين أعرف كثيراً منهم.. الجانب الآخر: أولئكم الذين يملكون من الدخول فوق كفاياتهم، ويضنُّون على نسائهم وأبنائهم في واجباتهم الزوجية والأبوية التي تجبُ عليهم بحسب إمكاناتهم.. فكم يؤلمك حين ترى أو تسمع عن ابنةِ الأكرمين التي انتقلت من دارعزِّها إلى ما تعتقده داراً لسترها، لترسُفَ تحت قيدِ بخيلٍ على أهلِه وبنيه، من عبيدِ الدِّرهم والمال الزَّائل، في نفسِ الوقتِ الذي تراه يمارسُ لشخصه حياةً ذاتيَّة أنانيةً في استراحات الصحاب، مما ينبئُ عن سفالة في تحمُّل أدنى مسؤوليات الإنسانية تجاه أطفاله ونسائه الصامدات بالصبر أمام هذا الكائن الخالي من الحسِّ الإنسانيِّ فضلاً عمَّا ندَّعيه من قِيَم العروبة وشِيَمِها، وما ملأنا به الدنيا من صخبِ الخصوصية في التديُّن السلوكيِّ الذي ندَّعي -زيفاً- اختصاصَنا به عن سائر العالمين! المضحك أنك ترى بعضهم كريماً مع الغير كرماً حاتميًّا، وأنت تعلم أنَّ هذا الكرم يدفنُ وراءَه عُقَداً اجتماعيَّةً مَرَضيَّة ، فكرمُه الشَّكليُّ الاجتماعيُّ هو على حساب الزوجة أو البنت أو الأخت المسكينة، وهو يُكرِمُ الآخرين على حساب بخله الغريب على أطفاله وبيته المحتاج إلى أدنى كرامة العيش المعاصر.. لنْ أتحدّث عن الحبِّ هنا، ولا عن القضايا النفسية والعاطفية التي ملأت كل قنوات الإعلام النظريِّ، فالقضية لدى هذه الفئة من الأراذل متجاوزةٌ مفهومَ الحبِّ إلى مفهوم الإساءة والرذيلة وانتهاك جوهر الرجولة، والمرأة التي تتعرض لهذا النوع من التَّعنِيفِ البشريِّ والنّهبِ الحقوقيِّ ليست في حاجة إلى الحبِّ والعواطف من الناهب بقدر ما هي محتاجة إلى الإبقاء على بعض حقوقها المادية على الأقل، فهي في ظلِّ هذا المنتهِك قد تكون مضطرةً إلى تعويض حياتها النفسية الداخلية خارجَ دائرة ذاته المريضة المعاقة عاطفياً.. اعذروني إذا حكمتُ بعنواني على أنَّ أشهر أراذل الرجال همْ أراذلُهم في أهلِهم، وأنَّ مَن مارس رذيلةَ إهانةِ المرأة في مالِها أو حقِّها الشرعيِّ المشروع عليه، غيرُ قابل للكرامة اللائقة بالشِّيَمِ العربيَّةِ التي عهدناها وورثناها كابراً عن كابر. والغريب أنك قد تراه – بهذه الرذيلة – من مُلازِمِي المساجد والجماعات والصَّلاح الشكليِّ من لباسٍ وقيافةٍ، دون أن يدرك أنَّ جوهر الصلاح يبدأ من نواة المجتمع (الأهل).. هل يفقه مثلُ أولئكم قول النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم): «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»؟ أو قوله «اللهمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: اليَتِيمِ وَالمَرْأَةِ»؟ أو «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً وَخِيَارُكُمْ خِيَارُهمْ لِنِسَائِهِمْ»؟ مثل أولئكم في تديُّنهم الشكلانيِّ يقنعونك بأنّ التديُّنَ ليس سوى نوعٍ من التجارة التي يمارسونها بتكرار أفعال الصَّلاة والصِّيام واللِّباس الخاص وغيرها من الطقوس، علَّهم يجنون -في اعتقادِهم- ما يمكنهم حتى بعد الممات، والدَّليل على هذا هو ما يمارسونه من السلوك المشين في تجارتِهم بنساءٍ هم يعلمون أنهم ومجتمعُهم أسهموا في قمع حقوقهنَّ في كل أنماط الحياة وجوانبِها، ولن أستطيعَ الفصلَ بين متاجرٍ بنسائه ومتاجرٍ بطقوسه الدينيَّة؛ إذ مُجمَل هذا يصبُّ في بؤرة الأنانية الذاتيَّة المَقِيتةِ التي تنطلق من القِيَم المتاحة لا من قِيَم الحب والروح والإنسانية في مجال السلوكيات الأسريَّة والاجتماعيَّة.