لا أخفيكم سراً أن التجربة الجامعية سبب مهم في قلب حياتي الخاصة والعامة إيجابياً، فقد غيرت طريقتي في التفكير رأساً على عقب، وشكلت تكويني الفكري والثقافي ومنحتني ثقة لا حدود لها في النفس، ورسمت استقلاليتي الذاتية والفكرية بشكل كبير، فمنذ الشهور الأولى من دراستي الجامعية تعلمت الاعتماد على الذات، والتحرر من عقدة الخجل والتردد أو الخوف غير المبرر من الاختلاط بالمجتمع. إلا أنني كنت أتوقع أن البيئة الجامعية من ناحية النسق الجمعي أكثر انفتاحاً وثقافة، وتحرراً من ناحية الفكر والمضمون والممارسة، كنت أتوقع أن الجامعة بمثابة الحصان الذي يجر عربة تنوير وتطوير المجتمع والتحرر من الموروثات القبلية والطبقية، وأن منسوبي الجامعة من أعضاء التدريس، والطلبة، قد وصلوا إلى مستوى فكري ناضج ورؤية منطقية عادلة لإنسانية الإنسان بعيداً عن نمطية التفكير التقليدي الموغل في التفاخر بالأحساب، لكني صدمت حقاً فقد وجدت الوضع معكوس الصورة، فالمجتمع بكل موروثاته وتوجهاته هو العربة التي تجر حصان التطوير والتحديث للخلف وليس للأمام. شاهدت صبغة المجتمع التقليدية التي كنت أشاهدها خارج محيط الجامعة حاضرة وبوضوح داخل الجامعة، تم نقلها من خارج الجامعة إلى داخلها، وجدت نفس العقليات التي تؤمن (بكهنوت) الحسب الذين يفاخرون بأفكارهم ومرجعياتهم القبلية والطبقية والاجتماعية ويمارسون نفس الطقوس الإقصائية والطبقية، فأول سؤال يسألونك (ويش ترجع؟) إلى أي عائلة أو قبيلة تنتمي..؟ لا يسألونك عن مستواك الدراسي أو الثقافي أو رؤاك الفكرية والثقافية! كانت تلك الأسئلة التي تقدس النسب تزعجني كثيراً حد الألم، لذلك قررت الابتعاد عنهم قدر الإمكان وعدم الاختلاط بهم، فأناس بهذه العقليات الرجعية لن يضيفوا لي شيئا بقدر ما تجرحني وتحرجني أسئلتهم، حاولت أن أجد وسيلة أشغل بها نفسي وقت الفراغ داخل الجامعة فوجدت أن (مكتبة) الجامعة ستكون بالنسبة لي بمثابة الرئة والشرايين التي أتنفس عبرها هواء الحرية الفكرية والاستقلالية الروحية، وتمثل لي كتبها أسرة ومجتمعاً راقياً وجميلاً لا يعرف الحقد ولا يعرف الغدر ولا يؤمن بالأحساب والأنساب. لهذا انغمست حد الذوبان في قراءة الكتب فوجدت فيها متعة لا توصف، تعلمت من الكتب درراً لا أستطيع أن أقدرها بثمن، وعرفت أن الكتب هي أدوات البناء الحقيقي التي تبنى الإنسان وتبنى فكره وتغير نمط حياته، وتجعل الإنسان يتميز عن الآخرين فكراً وسلوكاً وقيمة وثقافة، كانت قراءة الكتب والإبحار فيها يشكل لي غذاء روحياً حد الارتواء، ووقوداً فكرياً لا أمله أو أشبع منه. قمت بتوزيع وقتي بين ممارسة الرياضة بشتى أنواعها حتى أنمي جسمي وأهدر طاقتي بصفتي شاباً في عز ثورة الشباب، وبين القراءة والكتابة والمذاكرة والرسم حتى أنمي عقلي، كانت هذه الهوايات التي أمارسها تغذي روحي وفكري وجسدي، وبدأت تشكل مداركي وتعيد رسم خريطة تفكيري وحياتي. تعلمت أن قراءة الكتب والكتابة والرسم والرياضة بمثابة المفتاح السحري لتخطي كل الصعوبات والأزمات وملء الفراغ الروحي والشعوري الذي كنت أعيشه. ومضة ختام: «قد يرى الناس الجرح الذي في رأسك لكنهم لا يشعرون بالألم الذي تعانيه» هكذا الجروح؛ جروح نكتبها وجروح يكتبها آخرون ونحن من نتجرع ألمها!