ليس النظام السوري وحده الذي يرى مؤامرة على الشعب والدولة في سوريا، بل إن أغلب الأنظمة العربية تعيش هذا الهاجس بعد أن شعر المواطن العربي أن لديه قوة تهزم الرصاص بالصدور العارية، وأن حملة المباخر يتبخرون ساعة الصفر حين يفر الزعيم أو يختفي بعشرات المليارات من الدولارات بينما شعبه يعاني العوز والفقر والبطالة والمرض والجهل منذ جلس الزعيم على كرسي الحكم. ومن يبحث قليلا سيتأكد أن الزعماء العرب وأسرهم هم أغنى أغنياء العالم بلا منازع، ولا يحلم بل جيتس بمنافستهم في سوق احتكروا السلطة والثروة والأرض ومن عليها. يعلمنا التاريخ أن فعل التغيير لايمكن رده “إذا الشعب يوما أراد الحياة”، كما يقول الشابي، وتمكنت الإرادة من تجاوز المطبات و”المؤامرات” التي تحيكها الأنظمة المستهدفة. فقد كانت الفرصة التاريخية مواتية للأنظمة العربية في إعادة قراءة المعطيات السياسية والاجتماعية والتغيرات التي فرضتها ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، لكن الغرق في جمع الثروات أدى إلى قراءة معكوسة عندما تم تأويل التحركات الشعبية المطالبة بالحقوق المشروعة التي أصلتها الثورة المعلوماتية بأنها مؤامرات خارجية “قطعت الطريق على عملية الإصلاح المطلوبة”، كما يدعي حملة المباخر الذين يلعبون في الساحات الإعلامية بصفاقة وانعدام كامل للحس المهني فضلا عن الضمير الإنساني الذي اختفى مع الغنائم الموعودة وتلك التي دخلت في الحسابات المصرفية. ففي سوريا، مثلا، كان الوضع مهيّأً لإحداث عملية التغيير والإصلاح الجذري من داخل النظام في مارس من العام 2011 وإشاعة التعددية السياسية وتداول السلطة، لكن الشعور بأن الحل الأمني كفيل بإعادة عقارب الساعة للوراء وإعادة هاجس الخوف لدى المواطن ومن ثم تسييجه في شرنقته الدونية الممتهنة الكرامة والمصادرة العزة، جعل من الأجهزة الأمنية والعسكرية تزهو بأن الحل يكمن في القمع وزيادة جرعاته حتى يعود المواطن إلى “رشده”. هذه الحالة يعاد استنساخها في أغلب الدول العربية التي تعاني من عمليات قمع وبطش وفساد إداري ومالي أزكم الأنوف، وسياسة تمييز فاقعة بالأرقام والدلالات التي تبعث منفذيها إلى حبل المشنقة في أي دولة تحترم الحد الأدنى من حقوق الإنسان وتتعامل مع الشعب كبشر وليس كقطيع كما هو حاصل حاليا. توقعنا أن هذه السياسة التي تسبح عكس رياح التاريخ قد انتهت مع مغادرة آخر جندي استعماري المنطقة العربية، بيد أنها تتأكد مع غرق الأنظمة في الفساد وتشكيل جماعات الموالين وتخريب مؤسسات المجتمع المدني الجنينية لتبدأ في تفتيته ووضع البلاد في مهب الريح. في التاريخ أيضا، كان المواطن الإندونيسي يضع يده على رأسه نهاية 1997 وبداية 1998 وهو يراقب انهيار العملة الوطنية وانزلاق مستواه المعيشي إلى مستنقع الفقر المدقع لدرجة لم تخطر على بال أحد إثر الأزمة المالية التي عصفت بالبلدان الآسيوية، ليتكشف فيما بعد أن رأس النظام هو المسؤول حيث إن عائلة الرئيس سوهارتو تمتلك ثروة تزيد على 43 مليار دولار، وهذه تتعادل مع حجم الديون الخارجية التي تعاني منها إندونيسيا. لم يكن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ونظيره التونسي زين العابدين والعقيد معمر القذافي والعقيد علي عبدالله صالح أسوأ حظوظا من سوهارتو الإندونيسي، بل إن ثرواتهم تزيد أضعاف ما استولت عليه عائلة سوهارتو، بينما لا تقل البطالة في أحسن الظروف الاقتصادية العالمية عن 15% في هذه البلدان. خلال عقود من الزمن تربعت الأنظمة العربية على مقاليد الحكم ورفع أغلبها شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” مع الكيان الصهيوني، إلا أن المواطن العربي اكتشف حقائق مذهلة ومرعبة عن كيفية استغلال هذا الشعار في تخريب المجتمعات العربية وسرقة ثرواتها والسيطرة على كل السلطات بما فيها السلطة القضائية والتشريعية، فضلا عن التنفيذية التي تضرب بيد من حديد كل من يطالب بحق طبيعي في الحياة الحرة الكريمة، حيث وقفت هذه الأنظمة ضد حركة التاريخ ولاتزال. إن نظرية المؤامرة وتوجيه الاتهامات للمعارضات بأنها عميلة للخارج، هو ما أتحفتنا به الأنظمة العربية في محاولة جدية للتهرب من المسؤولية التاريخية عما آلت إليه الأوضاع التي تساوت فيه حياة المواطن مع الموت، فخرج للشارع وهو مقتنع انه لن يخسر شيئا إذا أطلق أحد الجند أو أحد العناصر الأمنية أو البلطجية أو الشبيحة رصاصة قاتلة تجاهه لتنهي حياته المريرة التي يعاني فيها من إهدار الكرامة وعدم الاعتراف به كمواطن له حقوق وعليه واجبات. وتعتقد بعض الأنظمة العربية أن التعاقد مع شركات العلاقات العامة ودفع مئات الملايين من الدولارات لتلميع صورة النظام، من شأنه أن يمد في حياة هذا النظام ويسهم في إلغاء الإدانات الحقوقية والسياسية التي تعمقت ضده في الوجدان المحلي والدولي. ولاشك أنه اعتقاد مضحك، حيث إن العلاقات العامة ورغم أهميتها لا تحل محل الوقائع الدامغة على الأرض.