قبل عام طرحت جدتي تساؤلا عقب سماعها لميزانية الدولة حيث باغتتني بلهجتها الجنوبية، وببراءتها المعتادة بالقول: «ما شاء الله طيب ليش ما (يزفلتون) الشارع اللي قدام بيتنا؟»، ناهية حديثها بالدعاء للمسؤولين بالهداية وحسن الخاتمة. ماتت جدتي قبل ثلاثة أشهر من الآن وهي تبحث عن أمر لنقلها لأحد المستشفيات المتخصصة في العاصمة وسرير يحتضن ألمها بعد أن أصيبت بقصور في الرئة، وعندما زرت بيتها وجدت ذات الطريق الترابي الذي لم يلتفت أحد ل (سفلتته) رغم تلك الميزانية الترليونية التي لم تستطع -رحمها الله – نطق مبلغها أو تعي قدره، ولم يعر أحد من مسؤولي البلديات اهتماما لذلك كما هو حال بقية مسؤولي بعض وزاراتنا حيال مطالب الناس. وقبل أيام صدرت ميزانية جديدة ذكر عند إعلانها أنها أكبر ميزانية في تاريخنا السعودي الحديث بل إن الميزانية السابقة – التي لم تعالج رصف شارع جدتي – حققت فائضا قد يمثل هو الآخر ميزانية أخرى لدولة ما في العالم الثالث. بلغ ذلك الفائض 386 مليار ريال سعودي قيل على لسان وزير المالية في تصريح صحفي محبط للشعب الذي كان يتمنى أن يلتفت أحد المسؤولين له لحل مشكلة سكنه والقروض التي أنهكته، إنه سيصرف للنقل العام داخل المدن على الرغم من وجود ميزانية معتمدة لوزارة النقل! تصريح معاليه الذي يعد من اختصاصات وزارة التخطيط التي من مهامها بناء استراتيجية للدولة وتحديد أهدافها ومشاريعها خلال العام والأعوام المقبلة لم يراعِ احتياجات المواطن الحقيقية ومعالجتها كما تفعل دول الجوار فأكثر قضيتين تؤرقان مضاجع السعوديين هما السكن والقروض. فالأولى وعلى الرغم من تصريح وزير التخطيط الذي ظهر أخيرا في إحدى الوسائل الإعلامية قال إن عدد السعوديين الذين لا يمتلكون مساكن يبلغ 39% من إجمالي السكان دون استناد لإحصاءات معتمدة وهو ما يعد تدخلا في مهام وزارة الإسكان وصفه اقتصاديون وأعضاء من مجلس الشورى أنه مخالف للواقع؛ حيث يرى الدكتور عبدالله دحلان وهو رجل أعمال وعضو شورى سابق أن 60% من المواطنين لا يملكون منازل، ويؤكد عضو مجلس الشورى سعيد الشيخ أن النسبة لا تتجاوز 38%، في الوقت الذي أعلنت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض وهي جهة رسمية في تقرير لها، أن 54% من السعوديين الذين يعيشون في العاصمة لا يملكون مساكن خاصة بهم. تلك المشكلة الاجتماعية يتوقع خبراء العقار أنها سترتفع إلى 80% في المستقبل في حال عدم وجود حلول مبتكرة وإخفاق وزارة الإسكان، التي لم تنجح حتى الآن في تيسير حصول المواطن على سكن يراعى فيه الجودة ضمن حدود دخله وفي الوقت المناسب من حياته، بل إنها لم تعلن رغم مرور أكثر من عامين على إنشائها أي إحصائية رسمية بعدد السعوديين الذين يمتلكون مساكن وهي ما تمثل إحدى مهامها المتواضعة. إن مشكلة السكن في المملكة الذي أصبح بعيد المنال عن كل سعودي يلامس راتبه 15 ألف ريال يكمن في القدرة المالية للمواطنين في ظل ارتفاع الأراضي التي تمثل 60% من إجمالي التمويل وعدم وجود البدلات التي تسهل لهم ذلك، وهو ما أحدث جدلا واسعا في مجلس الشورى عندما طرح بدل السكن تحت قبته الذي لن يكلف ميزانية الدولة أكثر من 75 مليار ريال سنوياً بمقدار ثلاثة رواتب شهرية للمواطنين الذين لا يمتلكون مسكنا خاصا بهم. أما القروض التي أصبحت علامة مميزة للمواطنة فهي لم تتعدَ نهاية العام الماضي مبلغ 300 مليار ريال جاء نصيب القروض الممنوحة للتمويل العقاري منها 27.7 مليار. كنا نتمنى أن نسمع أخبارا مفرحة من مسؤولينا لأولئك الكادحين من المواطنين الذين أرهقتهم الديون والإيجارات وأن يصبوا ذلك (الفائض) في توفير رغد العيش لهم الذي يعد أحد مهامهم الوظيفية بدلا من أن يذهب ذلك الفائض كسابقيه عندما حقق عام 2008 مبلغ 581 مليارا، و2010 مبلغ 88 مليارا، و291 مليار ريال عام 2011م دون أن نرى أثرا لها ناهيك عن الميزانيات الرسمية التي تتشابه في نهاياتها باستثناء أن جدتي لم تعد موجودة وهو ما يميز هذه الميزانية عن سابقتها، ولكن سيظل الأمل في الملك الصالح فذلك ليس ببعيد عنه حتى وإن أخفق مسوؤلو تلك الوزارات التي من واجبها تلمس احتياجات المواطن.