صباح الخير. منذ سنوات عدة انتشرت عندنا كتابات متفرقة ومن ثم كتب قليلة تندرج ضمن ما سمي لاحقا ب(تطوير الذات)، ولعل من أقدم الكتب في هذا المجال كتابي ديل كارنيجي «دع القلق وابدأ الحياة» و»كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس» وتعد معظم الكتب الأخرى عالة عليهما في أصل الفكرة وتنظيراتها. كما ظهرت في الثلث الأخير من القرن الماضي كتب لمؤلفين عرب تتحدث عن إدارة الوقت، وطرق استثماره. ولعل الكويتيين من بين العرب والخليجيين هم أول من تبنى هذه الأفكار وقدمها للمجتمع على هيئة مقالات أو كتب أو دورات تدريبية. وها هم الكويتيون يتصدرون قائمة الأسماء الأبرز والأعلى أجرا من بين المدربين والمتخصصين في مجالات تطوير الذات التي تفرعت وتعددت وأصبحت عصية على الحصر. البرمجة اللغوية العصبية، عنوان خلق تحولا مفصليا في مسيرة ما يسمى بتطوير الذات، وأربابه يؤكدون أنه علم منهجي ذو أصول وقواعد، تتعلق ببرمجة العقل الباطن على أفكار إيجابية ومقولات تفاؤلية، واستخدام بعض القوانين والآليات والحيل النفسية والطاقات الشعورية التي تؤدي كما يقال إلى تحويل الإنسان إلى شخصية إيجابية متفائلة طموحة ناجحة متوازنة شاملة لاتقهر، أي باختصار تحويل الإنسان إلى «سوبرمان» أو «سوبر وومن»! تعالت موجة تطوير الذات في العالم المتقدم، ولعلها انبثقت من موجة فكرية وثقافية برزت قبل ذلك، منادية بالعودة إلى إعلاء شأن الروح والروحانيات، في مقابل طغيان الفكر المادي، وصعود الجسد كقيمة كبرى تتمحور حولها كثير من النظريات والاتجاهات والأطروحات الفكرية والثقافية والاجتماعية في الغرب. ومع رد الفعل هذا، انتشرت ممارسات التأمل والروحانيات، وانبعثت كثير من الممارسات المندثرة في عصر العلم والتكنولوجيا، فاتجه الناس إلى اليوغا بوصفها رياضة روحية، وبدأ البحث عن بعض الفلسفات والنظريات التي تحمل هذا الاتجاه، وإن في ثقافات وحضارات خارج الحضارة الغربية، فاستعاد التاو الصيني -مثلا- حضوره وازداد توهجه، وكثرت ترجماته إلى اللغات العالمية، وانتشرت تعاليمه ومقولات حكمائه بشكل لافت. وما زاد من انتشار موجة تطوير الذات والتنمية الذاتية، وجود عدد من دور النشر المحلية والعربية التي عمدت إلى ترجمة الكتب الأمريكية لمؤلفين عالميين ومدربين مشاهير، وبعنوانات لافتة للنظر، مدموغة بالكلمة السحرية التي تسيّل لعاب المستهلكين من أمثالنا: (الكتاب الأكثر مبيعا في أمريكا) أو (طبع من هذا الكتاب عشرة ملايين نسخة وترجم إلى ثلاثين لغة حول العالم). وأقبل الجمهور في كل العالم على الروايات التي تحمل مضامين مشابهة، مثل «الخيميائي» لباولو كويلو، و»الراهب الذي باع سيارته الفيراري» لروبن شارما، كما نشطت بعض المراكز الخاصة في السعودية ودول الخليج في إقامة الدورات التدريبية في البرمجة اللغوية العصبية، ومهارات تطوير الذات، وقوانين النجاح، والتأثير في الناس، وما أشبه ذلك. بالنظر إلى المكونات التي تتشكل منها مواد تطوير الذات، نجدها في الغالب مزيجا معجونا بعشوائية لمجموعة من نظريات علم النفس والتربية والإدارة، مدعمة بمقولات وقصص وتجارب لبعض المشاهير والناجحين في عالم المال والأعمال وأصحاب الثروات الضخمة والرياضيين والإعلاميين وبعض قصص التراث الإنساني ومروياته، وفي السعودية والخليج، يضاف إلى هذه المصادر القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة، وقصص من التراث الإسلامي والعربي، وبخاصة أن معظم المهتمين والمختصين والمدربين السعوديين والخليجيين هم من المحسوبين على الاتجاه الديني، وبعضهم من الدعاة المعروفين مثل د. طارق السويدان ود. عوض القرني، الذي ألف قبل أكثر من عشرين عاما كتابا في هذا المجال تحت عنوان «حتى لا تكون كلّاً» . المدربون الذين يمزجون الدعوة بالتدريب، نقلوا موجة التطوير والتنمية الذاتية إلى التنمية الأسرية، وتربية الأبناء، ومهارات النجاح والتفوق الدراسي والسعادة الزوجية، حتى إن هناك دورات تعقد تحت عنوان «أسرار غرفة النوم»! وهذا طبيعي في ظل تحول الأمر إلى نشاط استثماري مربح جدا للمؤسسات والأفراد، بأقل تكلفة وأزهد رأس مال. إذ لايحتاج المشروع إلى أكثر من قاعة مستأجرة وصوتيات وأجرة المدرب، والإقبال مضمون مهما ارتفعت رسوم الدورة، وبخاصة إذا كان المدرب سيقدم لمرتاديه الخلطة السرية للمشي على الجمر -حافيا- دون ألم ولا حروق من أي درجة! من المتدربين من يحلم أن يصبح مدربا ذات يوم، والأمر ليس صعبا، فهو لايعني أكثر من مبلغ معين من المال يصرفه على حضور دورات تراتبية تضمن له أن يتدرج من متدرب إلى ممارس إلى مدرب معتمد. ومن ثم يجني هو الأرباح بعد أن دفع رأس المال المطلوب. حتى وإن كان لايملك شهادة جامعية في الأصل، ولا أي مؤهل شخصي أو علمي. ويضيف إليها حرف دال مدفوع الثمن، وما أكثرهم في بلادنا. المدربون اليوم ينافسون الفنانين والرياضيين والدعاة في الشهرة والنجومية، فهم يقدمون دوراتهم في عواصم عالمية، وفنادق فارهة، ومعظمهم يبيع الوهم للناس، ويدغدغ احتياجات البسطاء النفسية والعاطفية، يملأ صدورهم بأوكسجين زائف، لايلبث أن يتسرب ويتلاشى، مخلفا فقاعات من الوهم والخيالات التي لاتتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. بل ربما تراجعت خطوات إلى الخلف. جزء كبير يتحمله المتدرب، إذ ينشغل بالأفكار ويتشبع بالقصص والمقولات، لكنه لايجسدها ممارسة عملية في حياته وعاداته. هناك دورات حقيقية تطويرية ومثرية، في القراءة السريعة، وتقوية الذاكرة، وتعليم اللغات مثلا، يمكن للإنسان أن يفيد منها فائدة عملية وملموسة، أما دورات خداع الذات فيمكن الاستغناء عنها بقراءة بعض كتب التحفيز والتجارب والسير، وقبل ذلك بتحديد الأهداف والانطلاق نحو تحقيقها بالعزيمة والاستمرار والدأب. وكل من سار على الدرب وصل. شريطة أن يواصل السير ولايعترف بالتوقف ولا الحواجز، ولا بأوهام سوبر مان!