مكة المكرمة، جدة – نعيم تميم الحكيم، تهاني البقمي بخش: خسائر إغلاق المستشفيات خيالية ولا تُقدر بثمن على المالك والمجتمع. شكلت قضية إغلاق مستشفى عرفان ومن ثم صدور حكم قضائي ينقض قرار وزارة الصحة، جدلاً كبيراً حول الآليات المتبعة لدى وزارة الصحة لمعاقبة المستشفيات المخالفة. وتساءل كثيرون عن أسباب تأخر الوزارة في إغلاق المستشفى، وهل هو الحل الأفضل لإيقاف مسلسل الأخطاء الطبية، خصوصاً أن الإغلاق جاء بعد جدل إعلامي كبير بسبب وفاة صلاح يوسف جميل. بل إن بعضهم رأى أن إغلاق المستشفيات المخالفة ليس حلاً بقدر ما هو بحث عن حقنة لتهدئة الرأي العام والناس، متسائلين عن دور الوزارة الرقابي على المستشفيات بشقيها الحكومي والخاص. ووصف الدكتور أحمد عبدالله عاشور- أحد الخبراء في المجال الصحي- القرار بالمتسرع، وقال «فتحت قضية وفاة الطفل صلاح الدين يوسف جميل -يرحمه الله- في مستشفى باقدو والدكتور عرفان، الباب على مصراعيه للتجاذبات الإعلامية والأخذ والرّد والأفعال وردود الأفعال، كما كشفت عن حقائق ومعطيات يتعلق بعضها بالمستشفى المعني بالحادثة ويمتدّ بعضها الآخر ليشمل وضع الخدمات الصحية في بلادنا بصورة عامّة، ووزارة الصحة بوصفها الجهة المسؤولة بصفة أساسية عن توفير الخدمات الصحية للمواطنين والمقيمين، وعن مراقبة القطاع الخاص الذي يتحمل نصيباً لا يُستهان به من أعباء تقديم هذه الخدمات بصفة خاصة. وأضاف «وضعت ملابسات القضيّة وما أسفرت عنها من نتائج علامات استفهام كثيرة حول طبيعة العلاقة القائمة بين وزارة الصحة من ناحية ومختلف مؤسسات القطاع الصحي الخاص من ناحية أخرى». توازن وموضوعية د. أحمد عاشور وتطرق عاشور إلى تفصيل الحادثة بقوله «ثبت بالفعل حدوث خطأ في أثناء تحضير الطفل -يرحمه الله- لأخذ خزعة من الغدد اللمفاويّة المتضخّمة، وذلك بوضع الطّفل تحت التنويم الخفيف بواسطة غاز طبّي يستخدم لهذا الغرض دون الحاجة إلى تخدير كلي، وذلك في إحدى غرف قسم الأشعّة، وهو إجراء طبّي سليم ومتعارف عليه، ولم تكن هناك عمليّة جراحيّة كما تردّد في وسائل الإعلام أو تقرير لجنة المخالفات، وقد أظهرت التحقيقات الأوّلية التي أجريت من قِبل المستشفى أن الخطأ حدث نتيجة التباس في تمديدات مداخل ومخارج أنابيب الغازات الطبيّة في غرفة الأشعّة، هذه التي شاء الله أن تُستعمل لأول مرة في هذه الحالة بعد الانتهاء من ترميمها وصيانتها من قِبل شركة مختصّة متعاقدة مع المستشفى، مما نتج عنه استخدام غاز أكسيد النتروجين بدلاً من الأكسجين، وهو ما أدّى إلى تدهور حالة الطّفل ومن ثمّ وفاته» . إثارة الشبهة ولاحظ عاشور أن الأمر الذي يثير الشبهة حول إمكانية وجود تقصير من قِبل شركة الغازات المتعاقدة مع المستشفى، متمنياً أن تكشف التحقيقات أبعاد هذا الالتباس وتحدد مسؤوليّة جميع الأطراف بما في ذلك مسؤوليّة المستشفى ومسؤوليّة طبيب التخدير، حيث تحوم بعض الشبهات أيضاً حول مدى سرعة إدراكه طبيعة المشكلة منذ بدايتها وطريقة تفاعله معها. وحول موقف وزارة الصحة من الحادثة، رأى عاشور أنه من باب العدل والإنصاف فإننا نقر أن تجاوب الوزارة كان سريعاً وحاسماً على غير ما عهدنا في قضايا سابقة مماثلة، حيث أرسلت الشّؤون الصّحية لجنة التّحقيق للمستشفى الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف اللّيل يوم الحادثة. بيد أن التّحليل المنطقي البعيد عن المزايدات الإعلامية يقودنا بالضرورة إلى حقائق لا يمكن تجاهلها في موضوع الإغلاق، نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: أن قرار الإغلاق شمل جميع أقسام المستشفى بالرغم من عدم وجود علاقة مباشرة بين هذه الأقسام وبين القسم المعني بالمشكلة، كما أدّى إلى حرمان آلاف المراجعين من الحصول على ما يحتاجونه من خدمات في أقسام العيادات الخارجية وأقسام التنويم الأخرى وأقسام الغسيل الكلوي والأمراض النفسيّة والعلاج الطبيعي والمختبر وغيرها.. ومعظم هؤلاء المرضى يتابعون لدى أطبائهم المعالجين وفق مواعيد محددة سلفاً.. ولا يمكن والحال كذلك اعتبار قرار الإغلاق هذا إجراءً احترازيّاً، حيث إنّه يمس أقساماً عديدة لا علاقة لها بالقسم المعني بالحادثة من قريب أو بعيد. حجم الضرر ورأى عاشور أنّ حجم الضّرر النّاتج عن قرار الإغلاق وما ترتّب عليه من إخراج المرضى المنوّمين بهذه الصورة، وحرمان شريحة كبيرة من المجتمع من الحصول على الرعاية الطبيّة التي هم بأمسّ الحاجة إليها، يفوق كثيراً أي فائدة مرجوّة من الإغلاق، خاصّة إذا علمنا أن المستشفى المذكور يضمّ أكثر من مليوني ملف لمرضى يتابعون حالاتهم في أقسامه المختلفة.. علاوة على أنّ البدائل المتاحة أمام هؤلاء المرضى كانت محدودة للغاية إن لم تكن معدومة، ونخص منهم مرضى القلب والأورام والمرضى النفسيّين وغيرهم، الذين حملت لنا الأخبار نبأ وفاة بعضهم أثناء بحثهم دون جدوى عن أسرّة للتنويم في أي مستشفى من مستشفيات جدّة. وشدد عاشور على أن قرار الإغلاق لم يأخذ في الاعتبار أوضاع المرضى المنوّمين ومصيرهم.. كما لم يتم إعطاء المستشفى الوقت الكافي للتنسيق مع المستشفيات الأخرى لتوفير الأسرّة اللازمة لهم، وخاصة أسرة العناية المركّزة التي تعاني مدينة جدّة من نقص دائم فيها. ولفت إلى أن قرار الإغلاق تسبب في إيقاف عمل أكثر من 2500 موظّف وموظّفة، وهو أمر ينطوي على ظلم بيّن لهذه الفئة التي لم يكن لها أي دور فيما حدث، الذين باتوا أمام مصير مجهول.. فضلاً عن أن النخبة المميّزة من الأطبّاء والفنيّين والإداريّين سيتّجهون للبحث عن مواقع جديدة للعمل قد تكون خارج مدينة جدّة، مما يتسبّب في فقدان عناصر لا يمكن تعويضها بسهولة. أزمة خانقة وأشار عاشور إلى أن مدينة جدّة تعاني من أزمة خانقة على صعيد توفير الخدمات الطبّية اللائقة للمواطنين والمقيمين، وأن هناك نقصاً شديداً في أسرّة التّنويم بالمستشفيات الحكوميّة، خاصّة أسرّة العناية المركّزة، ذلك أن وزارة الصحة لم تضِف سريراً واحداً لمدينة جدّة على مدى أكثر من 25 عاماً، في الوقت الذي تضاعف عدد سكّان هذه المدينة عدّة أضعاف خلال هذه الفترة، ونتيجة لذلك فقد قام القطاع الخاصّ بالمشاركة في تغطية جزء لا يُستهان به من الاحتياجات الصحيّة للمواطنين والمقيمين.. وقامت الدّولة رعاها الله بدعم هذه التوجهات ومنح تسهيلات مالية بمئات الملايين من الريالات لجميع مشروعات إنشاء المستشفيات من قِبل القطاع الخاصّ، وليس من الحكمة أو المنطق أن تقوم وزارة الصحّة باتّخاذ مثل هذه القرارات التي تبدو كما لو كانت الوزارة تسعى إلى معاقبة المجتمع بأسره، وليس ملاّك المستشفى المعنيين وحدهم. وأبان عاشور أن وزارة الصحّة هي التي منحت ترخيص العمل لهذا المستشفى، وسمحت للعاملين فيه بمزاولة المهنة.. بل ومنحته قبل ثلاثة أشهر فقط شهادة استثنائية في مستوى جودة الخدمات بلغت 95%، وهي أعلى نسبة يحصل عليها أي مستشفى حكومي أو خاصّ في المملكة. متسائلاً: كيف يستقيم ذلك مع قرار الإغلاق اللّهم إلاّ إذا كانت وزارة الصحة غير قادرة على تحمل مسؤوليّتها في الإشراف والرقابة والمتابعة؟! التناول الإعلامي ورأى عاشور أن التناول الإعلامي الواسع والمتشنّج أحياناً لهذه القضيّة قد أوجد درجة عالية من الضّغوط على وزارة الصحّة، دفعها لاتّخاذ أيّ إجراء حتى ولو كان متسرّعاً، لكي تحافظ على هيبتها وتعفي نفسها من المسؤولية.. وبالمقابل، فإن هذا الزّخم الإعلامي الهائل قد أسهم بدرجة كبيرة في فقدان ثقة المواطن في مؤسّساتنا الصّحية، وضاعف اتّساع الفجوة بين أفراد المجتمع من ناحية وبين العاملين في القطاعات الصّحية من ناحية أخرى، وأحدث بلبلة لدى الرّأي العام لا تخدم المصلحة العامّة. وأكد عاشور على أن الأخطاء الطبّية هي حقيقة لا سبيل لإنكارها، وهي تحدث في أي منشأة طبيّة في أيّ مكان من العالم، ولم يتمكن أيّ مجتمع إنساني من القضاء عليها لأنّها تستمدّ جذورها من الطبيعة البشريّة لجميع الممارسين الصحيّين على امتداد العصور، مشيراً إلى أن الأطباء ومساعديهم هم بشر عاديّون، وهم كذلك عرضة لكل ما يعتري البشر من عوامل الضعف ومظاهر النقص، ومن ذلك ارتكاب الأخطاء. وأبان عاشور أنّ قصارى ما يمكن أن تحقّقه جميع الضّوابط والمعايير والأنظمة والقوانين هو الحدّ من نسبة حدوث الأخطاء وليس منع حدوثها بالكامل.. دراسات حول الأخطاء واستشهد عاشور بدراسة نشرت تتضمن استطلاع آراء المواطنين في مجموع الدول الأوروبية ال25 حول ما إذا كانت الأخطاء الطبيّة في بلادهم تمثل مشكلة كبيرة، حيث أجاب 96% من الإيطاليّين بنعم، وأجاب 48 – 50% من مواطني شمال أوروبا (فنلندا والدنمارك) بنعم، وكان المتوسط العام لآراء جميع الأوروبيّين هو 78% يرون أن مشكلة الأخطاء الطبيّة تمثل مشكلة حقيقيّة ومهمّة في بلادهم.. وفي الولايات المتّحدة يعتقد أن نحو 22% من السّكان يتعرّضون لشكل من أشكال الأخطاء الطبيّة. وأبان عاشور أن وزارة الصحة في المملكة أحالت 1547 قضية خطأ طبي على الهيئات الصحية الشرعية تمت إدانة 160 حالة وفاة كخطأ طبي عام 1432ه. ودعا عاشور إلى بذل قصارى جهدنا في البحث عن الثّغرات التي تنفذ منها هذه الأخطاء لنقوم بإغلاقها، وذلك يتأتى عبر مسالك عديدة تؤدي في مجملها إلى تطوير إمكاناتنا البشريّة والماديّة والفنيّة والتنظيميّة.. ودعم وسائلنا وآليّاتنا الرقابية، وتسخيرها لرفع مستوى أداء العاملين في القطاعات الصحيّة بدلاً من تصيّد أخطائهم وتشويه إنجازاتهم. قرار انفعالي وخلص عاشور إلى قرار إغلاق المستشفى ونقل المرضى بالصورة التي تم بها كان قراراً انفعاليّاً جانَبه الصواب، حيث لم يأخذ بعين الاعتبار مصالح المرضى والمراجعين، ولم يراعِ الأوضاع الصحيّة المتأزّمة بصفة عامّة في مدينة جدّة، بل أدّى إلى تفاقمها. وطالب وزير الصحة بإعادة النظر في دواعي وحيثيّات قرار الإغلاق، وتبنّي قرار شجاع يسمح بتمكين أقسام المستشفى من معاودة تقديم خدماتها للمرضى والمراجعين، ويستثني من ذلك الأقسام التي تثبت مسؤوليّتها عن الأخطاء التي حدثت في المستشفى، وذلك لإعطاء الفرصة للّجان المختصة لاستكمال التحقيقات وتحديد المسؤوليّات، داعياً لتشكيل لجنة محايدة تتولّى التحقيق في الموضوع من جميع جوانبه، ومراقبة سير العمل في المستشفى إلى حين صدور الأحكام النهائية في القضيّة. وشدد عاشور على أهمية أن تقوم الوزارة بإعادة تقييم شاملة لطبيعة العلاقة القائمة حالياً بين الوزارة ومستشفيات القطاع الخاص، بما في ذلك أساليب مراقبة العمل وتقييم الأداء وإجراء التحقيقات وإيقاع العقوبات، على أن يتم ذلك وفق معايير ومقاييس علميّة ومنطقيّة تحقّق مزيداً من الفاعليّة في الإشراف والرّقابة والمتابعة.. ومزيداً من المهنيّة والمرونة في التعامل مع المستجدات والأحداث. خسائر خيالية د. طه بخش ويؤكد رئيس مجلس إدارة مستشفى بخش الدكتور طه بخش، أن خسائر إغلاق المستشفيات خيالية ولا تُقدر بثمن على المالك والمجتمع، مشدداً على أهمية عدم الحكم على المستشفى بعدم أهليته لخطأ طبيب واحد، مشيراً إلى أن مدينة جدة تحتاج زيادة في المستشفيات الخاصة، ولابد من الأخذ بعين الاعتبار مصلحة المريض أولاً. وقال «تنقصنا مستشفيات كثيرة جداً في المدينة، وكان لدي مستشفى شرق الخط السريع وغرق بسبب الأمطار قبل أربع سنوات، وتم إنقاذ من فيه جميعهم، ولم تقل لنا وزارة الصحة شكراً، والأموال التي صُرفت من قِبل التأمين لا تغطي 10% من أضرار المستشفى وخسائرها، ومازالت مقفلة حتى الآن». مدير الشؤون الصحية بجدة يرد: المعايير التي تستند إليها الوزارة موضوعية د. سامي باداوود أوضح مدير الشؤون الصحية في صحة جدة الدكتور سامي باداود، أن المعايير التي تستند إليها قرارات وزير الصحة الدكتور عبدالله الربيعة، بالإغلاق تصدر متى ما ترتبت على المخالفة خطورة بشأن مستخدمي الخدمة، وعلى أساسه يُصدر معالي الوزير القرار بالإغلاق، وإن حصلت خطورة على حياة المريض في المرة الأولى التي يرتكبها المستشفى نغلق المستشفى حتى يأتي بشهادة من جهة معتمدة تؤكد إصلاح الخلل الموجود فيه سابقاً، ولا يمكن أن تسمح له وزارة الصحة أن يكرر الخطأ مرة أخرى إلى أن تثبت سلامة المنشأة.