في نوفمبر من عام 1984م.. كنت من بين الوفود الإعلامية والصحفية الكثيفة التي شاركت في تغطيات القمة الخليجية الخامسة.. التي استضافتها العاصمة القطرية (الدوحة) آنذاك، والتي أخذت تتناقص فيما بعد.. نظراً للأسباب الأمنية التي تصاعدت حتى جعلت من تلك الوفود أسيرة مقارها بين (الفنادق) المخصصة لها، و(المركز الإعلامي) الذي يلبي احتياجاتها الضرورية من الاتصالات الهاتفية والفاكسية والإذاعية للمراسلين الإذاعيين منهم.. وهو ما جعل كثيراً من رؤساء تحرير الصحف والمجلات يزهدون في حضور تلك (القمم) ويكتفون بإرسال مديري التحرير أو مَن في حكمهم لحضورها! على أي حال.. كانت تلك هي أول مرة أرى فيها دولة قطر وعاصمتها (الدوحة).. حيث هالني فراغ الشوارع من أي درجة من درجات الزحام المتوقعة في أي عاصمة من عواصم الدول مهما صغرت، وقد كان في مخيلتي زحام شوارعنا في كل من الرياضوجدة ومكة.. الأمر الذي جعلني أباكر بسؤال مندوب الوزارة المرافق لنا.. الإعلامي الشاب الأستاذ محمد الكواري عن عدد السكان؟ فأجابني على الفور.. بأنهم مائتا ألف!! ورغم تقديري للمبالغة المفترضة التي لابد أن يرتكبها بحكم وظيفته ك»مندوب» لوزارة الإعلام، عليه أن يحسن صورة (بلده) أو يجمّلها.. فإنها لم ترقَ إلى أن يكون ذلك الرقم هو عدد سكان قطر (كلها) وليس فقط عاصمتها (الدوحة)، إذ أن ذلك ما اكتشفته فيما بعد.. إلا أن هذا الأمر لم يصرفني عن الاغتباط بتلك (الحيوية) التي كان عليها هو وزملاؤه.. وذلك القدر من الحماس والتآزر اللافت الذي كان يجمعهم، وقد قدر لي أن أزور أحد أندية الدوحة أو جمعيتها الأدبية.. فلم أعد أذكر، خاصة وأن تلك الزيارة –ذات الطبيعة الصحفية– كانت وكأنها الأولى والأخيرة، التي لم تتبعها زيارة أخرى.. إلا تلك التي كانت بمعية جمع من رؤساء تحرير الصحف والمجلات في المملكة، والتي هندستها وزارة الإعلام.. بهدف إيجاد مزيد من التقارب والتواصل مع صحفيي دول مجلس التعاون في بقية أقطاره، وقد تحقق ذلك على نحو أو آخر.. حتى بلغ أوجه في إقامة (هيئة الصحفيين الخليجيين) التي اتخذت من العاصمة الكويتية مقراً لها. * * * على أي حال.. بقيت صورة (قطر) الأولى –في مخيلتي– ذلك القطر الخليجي الهادئ الوادع فوق مياه الخليج، أو ذلك (الآنف) من يابسة الجزيرة العربية الممتد إلى مياه الخليج كما ترسمه (الأطالس) وحوله أرخبيل جزرها.. المحدود المساحة، والسكان والإمكانات والمكانة، فهي ليست ك(عمان) صاحبة الموقع والمساحة والتاريخ القديم والطويل، أو (البحرين) صاحبة الريادة الفنية والعلمية والتعليمية المختلطة في المنطقة.. أو (الكويت) السباقة في ريادتها القومية وتجربتها السياسية، فلم يصبح استقلالها ناجزاً في القرن الماضي إلا بعد أن قررت (بريطانيا العظمى) في الزمانات انسحابها من شرق السويس في عام 1970م، بعد معاناتها مع الجيشان القومي الذي كان سائداً فثورتي سبتمبر وأكتوبر اليمنيتين في أوائل وأواخر ستينيات القرن الماضي، لتعلن (قطر) عن استقلالها التام في يوليه من ذلك العام، إلا أنه كانت ل(قطر).. في الغالب مواقف (منفردة) على المستويين الخليجي والعربي لا يشاركها فيها أحد، خاصة بعد أن حل الشيخ الشاب حمد بن خليفة آل ثاني.. محل والده، وأخذت تتواتر أخباره الرياضية من الركض في شوارع العاصمة.. إلى طموحاته في تنظيم دورة كأس العالم في يوليو من عام 2022م مع تكييف الملاعب التي ستقام عليها الدورة.. كما قيل!! حتى أسماها بعضهم تعبيراً عن غيظه ربما من مبادراتها أو من مواقفها المغايرة أو المخالفة.. ب(قطر العظمى)!! ولعل أبرز تلك المواقف في الجانب السياسي: استقبالها الزعيم الإسرائيلي الشهير (شيمون بيريز) وزير خارجية إسرائيل لأكثر من مرة، ورئيس حكومتها بالتناوب مع (رابين).. فرئيسها الحالي، ثم استضافتها أول مكتب تقيمه (إسرائيل) للعلاقات الاقتصادية في منطقة الخليج العربي.. في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام بشأن القضية الفلسطينية وحل النزاع العربي الإسرائيلي في أكتوبر من عام 1991م، الذي أعقب حرب تحرير الكويت.. التي كانت وكأنها بداية النهاية ل»العراق» دولة ووطناً وقوة استراتيجية عربية، حيث تم القضاء فيما بعد.. على بقية العراق عبر حرب «بوش»/ «بلير»، لتصعد (قطر) سياسياً بالتزامن مع صعودها اقتصادياً بامتداد سنوات التسعينيات من خلال اكتشافاتها النفطية والغازية الأهم.. التي جعلت منها -في وقت قياسي- كبرى دول العالم المصدرة ل(الغاز). على أن الذي ضاعف من رصيد قطر السياسي دون شك.. هو شراؤها (محطة) ال(BBC) العربية التي كانت تبث برامجها من (بيروت)، ثم أغلقت إرضاءً لبعض الدول العربية التي أغضبتها تغطياتها وجرأتها وكشفها (المسكوت) عنه، لتجد في (الدوحة) مساحة وحرية بلا حدود واسماً جديداً.. هو (الجزيرة)، الذي أخذت تظهر به لشهور طويلة.. دون أن تكشف عن هويتها أو مركز بثها الحقيقي، ليتابعها القاصي والداني من الخليجيين ومن العرب أنفسهم الجائعين –جميعاً– لإعلام حر صادق جريء كذلك الذي فاجأتهم به (قناة الجزيرة) عند ظهورها لأول مرة، وقد كنت من أولئك الذين كانوا يتابعونها بشغف لا حد له.. مصحوباً بغير قليل من القلق والخوف عليها من أن يجري تكميمها ب(المال) أو ب(بوس اللحى).. ولكنها استمرت بدعم أميري غير محدود، وحكومي لا يقل صلابة عنه.. في تأدية رسالتها الإعلامية الجريئة الشجاعة والثقيلة على معدة الخليجيين ومعظم العرب دون شك، لتصبح في أعوام قلائل.. قناة العرب الأولى دون منازع، التي يشاهد أخبارها ولقاءاتها وبرامجها السياسية العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، وقد وجد أستاذ الشريعة والعلوم الدينية في جامعة قطر الدكتور يوسف القرضاوي –الذي لم أعرف حتى هذه اللحظة أسباب مغادرته مصر أو منعه من العودة إليها.. رغم التقائي الشخصي به في مدينة جدة في ليلة تكريمه ب(إثنينية) الخوجة– فرصته في (قناة الجزيرة) الواصلة لكل أنحاء العالم.. وربما أن القناة نفسها كانت تبحث عن فقيه أزهري إسلامي وسطي مستنير ك(الشيخ القرضاوي).. فوجدت فيه ضالاتها.. وفي المقابل وجد هو فيها ضالته، ليظهر (الشيخ) فوق قناتها بتواضعه وبساطته وسماحته وتيسيره وليس تعسيره على الناس.. فنجح نجاحاً باهراً دون أن يظهر عليه أي قدر من تطلعات الشيخ (الإخوانية) آنذاك، لتكسب (الجزيرة) به.. ويجتمع لها مجدا (الدنيا) و(الدين). * * * مع نسمات (ربيع الحرية العربي) الذي هب على كل من (تونس) ف(مصر) في الرابع عشر والخامس والعشرين من شهر يناير من عام 2011م.. لم يكن صعباً على المتابعين وعلى كل ذي بصيرة أن يلمح آثار تلك البذور التي غرستها (قناة الجزيرة) بإلحاح وموضوعية في تربة العالم العربي.. عبر سنواتها الماضية: من كشف للحقائق وتتبع لألوان الفساد وفضح لعورات الأنظمة، إلى جانب عشرات اللقاءات المعمقة لرجالات ومناضلين ومفكرين وسياسيين وعسكريين من مشرق العالم العربي إلى مغربه ومن شماله إلى جنوبه، وهم يقدمون شهادات معاناتهم مع أوطانهم، التي تطأطئ لها الرؤوس والنفوس.. حتى ضج الناس من ذلك الذي كانوا يسمعونه ويشاهدونه، وهم يبحثون عن التغيير.. وكيفيته، فكانت حادثة حرق (محمد بوعزيزي) نفسه في قرية (سيدي أبوزيد) التونسية يأساً، واستشهاد (خالد سعيد).. ظلماً، في أحد أقسام (البوليس) في مدينة الإسكندرية.. تحت التعذيب، هما الشرارتين.. اللتين أشعلتا لهيب الثورة الخامد في النفوس، لتحضر (قناة الجزيرة) إلى قلب الحدثين بكل ثقلها وكوادرها ومراسليها وكاميراتها.. لتنقل أدق أدق تفاصيلهما ليرى العالم ما يجري، ويبكي عليه، فلا تأخذه شفقة ولا رحمة ب(صناعه). فقد كانت (عربة) بوعزيز المهشمة.. ك(قميص) سعيد الممزق والملوث بالدماء، اللتان نقلت صورتهما (قناة الجزيرة).. شهادتين دامغتين لعصرين وعهدين يستوجبان زوالهما، وهو ما ظلت تتابعه (قناة الجزيرة) ساعة بساعة.. ويوماً بيوم.. حتى سقط (بن علي) بهروبه، و(مبارك) بتنحيه. ورغم.. أن (قناة الجزيرة) كانت تتجاوز.. أحياناً حدود الأخبار بما يجري.. إلى خطوط التحريض عليه، إلا أن مشاهديها كانوا يرون ذلك مُبرراً بل ومطلوباً ومحموداً، يصب في وطنية (القناة) وعروبتها وإخلاصها ل»الحرية»!! * * * بعد أن تمدد (ربيع الحرية) العربي إلى (ليبيا) ب(ذاته) أو بفعل الطامعين في موقعها أو نفطها أو هما معاً!؟ وإلى (اليمن) ب(حسد) الحاسدين ل(نجاحه) الباهر وغير المتوقع.. في احتضان وإدارة دورة كأس (خليجي عشرين) ولأول مرة في (عدن)، أو ب(تربص) الانفصاليين.. ممن كانوا يبحثون عن مركب لأجندتهم الغادرة فوجدوا أمامهم (مركبة) هذا (الربيع).. ليمتطوها ويهتفوا بهتافاتها ويحملوا شعاراتها حتى جاءت (الجامعة العربية) بوزراء خارجيتها المتعارضين سياسياً وفكرياً على المستويين الشخصي والوطني، وأمينيها السابق واللاحق بمبدأ (مع الخيل ياشقرا)، وتبعها (مجلس الأمن)، وإلى أن وصل (المارينز) وجنود (حلف شمال الأطلسي) لحماية ثوار ربيع الحرية.. كانت الأمور قد بلغت أعلى درجات التباسها بين أبناء الأمة العربية، بل وتشابكت وتعقدت بتعارض مصالح الأطراف مجتمعة.. لتنحسر الأضواء دفعة واحدة عن (قناة الجزيرة)، وتنصرف عنها تلك المشاهدة الجماعية الإجماعية التي حققتها!! فقد غدا (الشك) يحيط بكل شيء.. بالأخبار التي تذاع، وبالمشاهد التي تنقل عبر الشاشات.. بل وب(اللقاءات) التي تجرى والاجتماعات التي تعقد.. أياً كانت عناوينها البراقة الجميلة!! فقد غدا الظلام عميقاً.. يمتد إلى كل شيء!! * * * على أي حال.. وقبل أن يأفل عامي ربيع الحرية العربي (2011، 2012)، كان من حسن الحظ.. أو من سوءه على (قناة الجزيرة) وربما على الطموح القطري.. أن قامت صحيفة «الشرق» السعودية بنشر أربعة تحقيقات صحفية كاشفة جريئة متتالية.. عن (القناة) وعن الطموح القطري، وهي تتعقبه من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى الأردن.. كاشفة عن تحالفات إخوانية أمريكية بريطانية فرنسية مخيفة يقودها ويروّج لها الطموح القطري، وهي تتحدث عن أسلحة وذخائر بآلاف الأطنان لإلقائها في محرقة (الأزمة السورية)، وعن صفقات مشروعات لإدارة واستغلال قناة السويس لتسعة وتسعين عاماً لا يصدقها عقل، وعن استثمارات قطرية خيالية في تونس ما كانت لتصدق لولا أن رئيس الوزراء التونسي استبدل (الدوحة) بدلاً من (باريس) في أول رحلة رسمية يقوم بها خارج تونس لشرح أهداف الثورة التونسية، ولكن الأسوأ في كل هذه المشروعات الحقيقية أو غير الحقيقية.. هو ما جرى ويجري في (الأردن) من مساعدات لمعسكرات اللاجئين السوريين، ودعم لخطبائه ودعاته، ولمعركته الانتخابية التشريعية القادمة، بل ول(الفن) و(الدراما) الأردنية.. عبر خطوات غامضة، هدفها النهائي.. تحويل (الأردن) إلى (وطن بديل) للفلسطينيين تنتهي به ومعه أزمة الصراع العربي الإسرائيلي.. وإلى الأبد! * * * ربما من الصعب أن نصدق كل هذا.. ولكن من الصعب أيضاً أن نكذب كل هذا، والمؤكد.. أن هذه التحقيقات بتفاصيلها قد قُرئت إن لم يكن ورقياً.. فعلى شاشات (النت) المتاحة لكل الناس. إن (الطموح) وأياً كانت درجة إفراطه في التفاؤل.. ليس عيباً بحال من الأحوال في حياة الفرد أو الأمة، ولكنه يصبح عبئاً عندما يصادم الأمة في أعز وأغلى أحلامها.. بل ويصبح (خللاً) عندما تتسع الملابس، وتصبح فضفاضة على من يقوم ب(الدور)؟!