نبقى نسخةً طبق الأصل من مرحلةٍ تأريخيّةٍ تولّت بكلّ ما فيها من تأزم إذ ما من شيءٍ في يومنا هذا يمكن أن نقول عنه قد تغير عمّا كان في تأريخنا قبلاً سوى بقية يسيرة من الأسماء والألقاب، وتباينٍ في المواقع الجغرافية ليس غير! إنها بأوجزِ عبارة ليست سوى الآلية نفسها التي ليس من شأنها غير الاشتغال على إعادةِ مُنتَجِهَا بذات القوالب الجامدةِ ذلك أنّ المقدمات إذا ما اتفقت بشروطها التي ترتهن إليها ستؤدّي بالضرورةِ إلى النتائج عينها. وإلى ذلك أمكننا القول جزماً بأنّ مَن لم يفقه ما قد جرى لأسلافنا سيُمنى بالجهل في فقه ما تجري عليه الأحداث اليوم مِن حوله. ولئن خلت في الذين مضوا المثلات في الشأنِ: «السياسي» فإنّ تأريخاً اشتغل على توظيف: «الديني» هو بالضرورة تأريخٌ سياسيٌ بامتياز؛ إنه تاريخ تفاعلٍ بين المقال الديني والممارس السياسي وهو تفاعلٌ ارتفعت فيه القضايا السياسية حدّاً بلغت معه المستوى الديني ليس في مجالهِ الفقهي وهو رحب حسب اختصاصه بسياسة شرعيةٍ معتبرةٍ وإنما بأبعاده العقدية. ولقد تمّ انتحال السياسي قولاً مبيناً في الديني واستحال الاشتغال السياسي حقيقةً شرعيةً إذ بات يؤاخذ مَن خالفها تجريماً بحسبانه قد قارف افتئاتاً على: «السلطة» المسؤولةِ إذ ذاك عن صناعة: «نظامِ الخطاب» الذي يبثّ في الناسِ باعتباره توقيعاً بالإنابة عن رب العالمين وفق آليات تكوّنت بمؤسسة الحاكم بأمر الله وبمباركةِ ظلّه في أرضه. ولِمن قرأ: «الرسالة» للشافعي أدرك عمق ما عليه هذا العبقري الفذّ يومَ أن وعى جريمة: «السياسي» في سعيه الحثيث ابتغاء اختطاف الديني فما كان من -الشافعي- إلا أنْ جعلَ من رسالته سدّاً منيعاً يتغيّا جراءه أن ينأى بتأويل: «النصوص الشرعية» عن عبثِ: «السياسي» وشغبِ أذيال بغلة السلطان ولعله الأمر الذي بسببه أخذ الشافعي طريقه للسجن والجلد وليس بسبب امتناعه عن القضاء أو اتهامه بالتواطؤ مع الخارجين على الخليفة.وبكلٍ فإنه ما من قراءةٍ يبتغي أصاحبها استيعاب حِراك: «الفكر العربي الإسلامي» دونَ أن يلتزموا شرطها الأساس وهو فهم تداخل السياسي بالديني تظلّ قراءة منقوصة منهجيّاً وإذا ما رتب عليها نتائج فستكون نتائج مضللة لاتستقيم والمنهجية الصحيحة بأي حال. وبمستطاعك أن تتساءل عن الصراعِ فيما بين: «الأمين» وأخيه: «المأمون» أين كان أهل الحديث في معترك حرابهم؟! وما الأسباب التي جعلت من الاعتزال فكراً متغوّلاً في يد: «المأمون» ومن كان فيهما -المعتزلة والمأمون- مَن وظّف الآخر؟! على الرغم من أنّ أصول المعتزلة نظرياً من شأنها أن تأبى مثل هذا التداخل والانكفاء تاليا على صاحبِ سلطان! فأي شيءٍ قد حدث من الجميع وللجميع.وذات الأمر يسحب ثانيةً على ما كان من: «المتوكل» الذي لم يعرف عنه قبلاً أيّ انتصار لأهل الحديث بأعيانهم أو ونصرةً للسنة! لو لم يكن السياسي حاضراً بخيله ورجله إذ رحنا نقرأ بياناً بنفَسِ أهل الحديث بينما الروح في البيان هي روح: «الخليفة المتوكل» حيث ألفينا البيانَ ينص على تكفير متكلمة المعتزلة! وليس بخافٍ على أيّ دارسٍ ما كان لأبي حامد الغزالي ولمؤلفاتِه من اكتواءٍ بنار: «السياسي» وذلك أنّ كتب: «الغزالي» وبخاصةٍ: «الإحياء» صدر مرسوم سلطانيّ ممهورٌ بتوقيع: «علي بن يوسف بن تاشفين» يأمر بإحراق كتبهِ ولعلّه كان بإيعازٍ من فقهاء مدرسة تختلف ومدرسة أبي حامد؟! ما يعنيني ها هنا هو: الاكتواء بذات النار، فأبو حامد الغزالي كان محسوباً على الدولة العباسية السلجوقية في كلّ ما يأتي ويذر ويسفر عن هذا الأمر ما كان من ارتباطه الوثيق بالوزير السلجوقي: «نظام الملك» وبخاصةٍ في المرحلة التي بات فيها الغزالي أستاذاً مشرفا على التدريس في المدرسة النظامية ببغداد ما يعني أنّ أبا حامد كان محتضنا من قبل السلطة السياسية التي تعاني إبانها أزمة وخطراً سياسياً أبرزه: تصاعد الحركة الشيعية الطائفية: «الباطنية» ويكفي من شأن تعاظم خطرها هذا ما كان منها من اغتيال الوزير: «نظام الملك» ثم الوزير: «فخر الملك»! ما قلته قبلاً في شأن إحراق كتب أبي حامد -المتأخر- يجب استحضاره الآن لتتضح لنا: «نار السياسي» وذلك فيما كان من أبي حامد تأليفاً لكتابٍ يفضحُ به خصوم: «أسياده» إذ كتب بأمرٍ من الخليفة السلجوقي المستظهر بالله كتابَ: «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية». وبعدُ فلربما أن تتساءل عن كتابِ: «تهافت الفلاسفة» للغزالي هل جاء هذا الكتاب خالصاً من الوقوع في شرك: «السياسي»؟! وَفق ما وعيته قراءة للكتاب أجدني ممن ينزع إلى القول بأن الكتاب -تهافت الفلاسفة- سياسيٌ هو الآخر بامتياز وذلك لتوالي الكتابين تأليفاً وثانيا للبنية الداخلية معرفيا لهما -الفضائح والتهافت- إذ هما -وفق الغزالي- ينطلقان من معتقدات واحدة مشتركة وذلك ما وكّده الغزالي بقوله: «إن المعتقدات الباطنية هي نفسها المعتقدات التي يكفر فيها الفلاسفة المسلمين». ويمضي أبعد من ذلك يوم أن قرّرَ بأنّ عمل الفلاسفة لايعدو أن يكون هو الأساس العقدي النظري للحركة الباطنية. وتبعاً لذلك يمكن القول: إن: «تهافت الفلاسفة» كان اشتغالا بالسياسي أكثر من كونه بالديني ولعله يصح أن نعدّ كتاب: «تهافت الفلاسفة» مقدمة معتبرة لكتاب: «فضائح الباطنية»! وفي كلٍّ سياسة.