تعني الثقافة، ضمن ما تعني، اختراع الإنسان للمفاهيم والمعاني التي تكشف عن وعيه بكينونته وتقويمه لها. فيحمل بعض ما يخترعه من المفاهيم والمعاني قيماً إيجابية مطلقة بالاختلاف عن معانٍ ومفاهيم تحمل قيماً سلبية مطلقة. ومفاهيم مثل: «التقدم» و»التطور» و»الديمقراطية» و»التحديث» و»الإبداع»… إلخ هي مفاهيم ثقافية وليست طبيعية، بمعنى أن الإنسان اخترعها بعقله لوصف فهمه تجاه موضوعاتها وتسميته. وهي مفاهيم تحمل قيمة إيجابية مطلقة في العموم بالاختلاف عن معانٍ ومفاهيم مضادة لها، مثل: «التخلف» و»الجمود» و»الاستبداد» و»التقليد»… إلخ تحمل قيمة سلبية مطلقة في العموم.لكن التأمل في هذه المفاهيم يكشف عن انطوائها على تجريد وتعميم وإطلاق، ومن ثم تصبح أمثلة الصنف الأول من تلك المفاهيم دالة -بلا تردد- على الإيجابية والاكتمال والامتلاء والتحقق، وأمثلة ما هو بالضد منها دالة على السلبية والنقص والحاجة وعدم التحقق… إلخ، وهذا هو مكمن الخرافة الثقافية التي يعنيها عنوان مقالنا. هل نقول عن «التقدم» -مثلاً- إنه لحظة مكتملة لا تشتكي من عوز إلى التقدم؟! هل هذا التقدم في مسيرة الإنسان إلى المستقبل؟ أم في عودته إلى الماضي؟! أليس تحقُّق التقدم نفياً له؟ وماذا عن «الديمقراطية؟ هل تكتمل دونما زيادة عليها أو نقص منها؟! أليس اتصافنا بعدم الديمقراطية هو مدعاة الحاجة المستمرة إليها؟ بل مدعاة اختراعها وتسميتها ووسمها إيجابياً؟! هل نفهم معنى الديمقراطية لو تحققت الديمقراطية فعلاً وصار الإنسان ديمقراطياً؟! وبمثل ذلك فلنسأل عن «التحديث» و»الإبداع» و»العقلانية»… إلخ. كيف يكون التحديث كاملاً وهو يستلزم لتحقُّقه قدامة وتقليداً، ويصير إلى قدامة وتقليد؟! وهل يغدو العقل عقلاً بلا مقاومة مستمرة للخرافة واللاعقلانية؟!المعاني المكتملة والمنغلقة -على النحو السابق- هي مادة الإيديولوجيا التي تصنع منها عرشها وتؤلف أتباعها وتهيمن عليهم. ليس هناك إيديولوجيا بلا معانٍ مجردة وعمومية ومكتملة في ذاتها بما ينفي أضدادها والمغاير لها ويحقق لها الوجود ويحميه. ولذلك فإن كل إيديولوجيا تجاوز العقل وتخرقه. إن الإيديولوجيا خرافة ثقافية. لكن الإنسان لن يشفى من خرافاته الثقافية! وهي ليست -بالضرورة- خرافات بدائية يلدها الجهل وترضعها الأمية والعزلة والقلة، بل هي خرافات المجتمعات الحديثة المتعلمة ذات الغنى والقوة، ولكنها تبقى خرافات ما اتصفت بصفات الإطلاق والاكتمال، تعمي عن الحقيقة وتجلب الخصام والصراع وأحيانا غير قليلة الحروب والبؤس والدمار!فكرة الاختلاف في الفكر الحديث هي فكرة ما بعد بنيوية وما بعد حداثية، وجاك دريدا هو من قال: «أن تكون ديمقراطياً يعني أن تقرن دائماً أفعالك بالاعتراف بأنك في مجتمع غير ديمقراطي». وذلك مؤدَّى متصل لديه بتفكيك اكتمال المعاني والنقض لمركزية «اللوجوس». لكن الفكرة في مؤداها التفكيكي، وإن أكسبتنا معرفة طريفة، تورث الإنسان حساً عدمياً بوجوده وكينونته. فلولا وهمه باكتمال ما يصنعه من معانٍ ثقافية لما تألَّفت المجتمعات وتنافست، ونشأت الحضارات، ولما انطوى الإنسان على طموح مستمر في غد أفضل وأكثر سعادة ورفاهية وسلاماً وغنى وقوة وحرية! لن نعيش -إذاً- بدون خرافات ثقافية، ولكن علينا أن نعي أننا نحن من يصنعها ويملك انتقادها والوعي بها.